الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/07/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة العقلية/ الدليل الخامس

 

كان الكلام في الدليل الخامس الذي استُدل به على قاعدة قبح العقاب بلا بيان وهو ما ذكره المحقق الأصفهاني قده فبعد الخدشة التي ذكرها في الدليل الرابع قال لابد من الإستدلال بدليل يثبت قبح العقاب بملاك عدم البيان على التكليف لا بملاك عدم التكليف، وأن يكون الإستدلال بأمر متفق عليه لأنَّ القاعدة المتفق عليها، ولا يكون الإستدلال بأمر مختلف فيه على القاعدة المتفق عليها، وهذا الدليل يبتني على ما إختاره في مسألة حُسن العدل وقبح الظلم وأنهما من القضايا المشهورة التي ليس لها واقع وراء تطابق آراء العقلاء عليها، فليس حُسن العدل ولا قبح الظلم أمران واقعيان وإنما هما داخلان في الآراء المحمودة والتأديبات الصلاحية، وبناء عليه يقول:

إنَّ قبح العقاب بلا بيان حكم من أحكام العقل العملي وهو داخل في التحسين والقبيح العقليين فلابد أن يكون هذا الحكم داخلاً في مصاديق حُسن العدل وقبح الظلم، وذلك باعتبار أنَّ مخالفة التكليف الذي تم عليه البيان يُعد ظلماً وتجاوزاً على حق المولوية بنظر العقل لأنَّ من حق المولى طاعته في تكاليفه فإذا خالفه العبد كان ذلك ظلماً وتجاوزاً، والعقاب على هذه المخالفة يكون عقاباً في محله ولا يُعد ظلماً، هذا في التكليف الذي تم عليه البيان، وأما التكليف الذي لم يتم عليه البيان فمخالفته لا تكون ظلماً بنظر العقل لعدم تمامية الحجة عليه، والعقاب على مخالفته يكون ظلماً وقبيحاً لأنَّ المولوية لا تقتضي حقاً في مثل هذا التكليف، هذا هو الدليل على هذه القاعدة.

وبعبارة أوضح إنَّ العقلاء يرون أنَّ العقاب على تكليف لم يتم عليه البيان لا مبرر له فيكون ظلماً وتعدياً على العبد فيكون قبيحاً.

ولوحظ عليه بعدة ملاحظات:

الأولى: إنَّ هذا الدليل تأتي فيه الملاحظة التي ذكرها في الدليل الرابع وهي الإستدلال بما هو مختلف فيه على ما هو متفق عليه، وذلك لأنَّ رجوع قضية حُسن العدل وقبح الظلم الى التأديبات الصلاحية والآراء المحمودة محل خلاف والمشهور لا يرى ذلك ويرى أنها أمور واقعية.

ولذا فالأفضل أن لا يجعل دليله مبنياً على رأيه في مسألة التحسين والتقبيح العقليين وذلك بأن يقول إنَّ حُسن العدل وقبح الظلم أمران واقيان ثابتان بقطع النظر عن وجود العقلاء وتطابق آراؤهم، ثم يقال إنَّ العقل يدرك أنَّ مخالفة تكليف المولى الذي تم عليه البيان ظلم في حق المولى فالعقاب عليه يكون في عقاباً محله، كما أنه يدرك أنَّ مخالفة تكليف المولى الذي لم يتم عليه البيان ليس ظلماً في حقه فالعقاب على مخالفته يكون ظلماً وقبيحاً.

الثانية: إنَّ الوصول الى النتيجة - وهي قبح العقاب على مخالفة ما لم يتم عليه البيان - يتوقف على إثبات أنَّ هذه المخالفة ليست ظلماً حتى يكون العقاب عليها ظلماً وقبيحاً، ولكنه لم يستدل على ذلك بل أخذ هذه النقطة مصادرة ووصل الى النتيجة التي ذكرها، ولكنها هي النقطة المهمة في المقام، والطرف الآخر يدعي أنها ظلم للمولى والعقاب على التكليف الذي لم يتم عليه البيان ليس ظلماً ولا قبيحاً.

وقد يُتأمل في هذه الملاحظة بإعتبار أنَّ هذه القاعدة ثابتة عند العقلاء وسيرتهم جارية عليها، وهذا يعني الإعتراف بأنَّ مخالفة التكليف الذي لم تقم عليه الحجة لا تعتبر ظلماً بنظرهم، ولذا إعتبروا العقاب عليها قبيحاً، فإذا أرجع المحقق الأصفهاني هذه القضية الى القضايا المشهورة فيثبت أنَّ آراء العقلاء قد تطابقت على أنَّ مخالفة التكليف الذي لم يتم عليه البيان ليست قبيحة وأنّ العقاب عليها يكون ظلماً، فتثبت قاعدة عقلية يحكم بها العقل العملي وهي قبح العقاب بلا بيان، فلا يكون ذلك مصادرة.

وجوابه نحن نُسلِّم بثبوت القاعدة عند العقلاء وأنَّ مخالفة التكليف الذي لم تقم عليه الحجة ليست ظلماً وأنَّ العقاب عليها يكون ظلماً وقبيحاً، ولكن يمكن أن يدعى أنَّ الثابت عند العقلاء والمعترف به مختص بدائرة المولويات العرفية وأما ما يرتبط بتكاليف المولى الحقيقي فلا إتفاق عليها، فالتعدي يكون مصادرة.

الثالثة: أنَّ العقاب في القاعدة هل يراد به العقاب الأخروي أم العقاب الدنيوي أم الأعم منهما؟

الجواب: إنَّ المقصود بالعقاب هو العقاب الأخروي وهو الذي يكون ملاكه الإستحقاق، وأما العقاب الدنيوي فله ملاكات أخرى يلحظها الخالق ولا تنحصر بالإستحقاق، وعليه نقول:

إنَّ معنى القاعدة علة هذا هو (قبح العقاب الأخروي عند عدم البيان)، وإذا ضممنا إليها ما يؤمن به المحقق الأصفهاني قده من أنَّ الحُسن والقبح يرجع الى الآراء المحمودة والتأديبات الصلاحية التي ترجع الى تطابق آراء العقلاء على ذلك حفظاً للنظام ومنعاً من الفوضى فينتج إنَّ العقلاء تطابقت آراؤهم على قبح العقاب الأخروي لحفظ النظام، ولكن ما هو المراد من حفظ النظام؟

فإن أريد منه حفظ النظام الدنيوي فلا علاقة بينه وبين العقاب الأخروي، وإن أريد منه حفظ النظام الأخروي فهذا لا معنى له ولا علم للعقلاء به، ومنه يتبين أنه لا برهان على إثبات قاعدة قبح العقاب بلا بيان، كما لا برهان على إنكارها، فتكون المسألة وجدانية يرجع فيها كل شخص الى وجدانه ولا يكون ملزماً للطرف الآخر.

برهان السيد الروحاني قده لإنكار القاعدة:

ذكر السيد الروحاني قده دليلاً على بطلان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وحاصله إنَّ العقاب الأخروي وكذا الثواب فيه آراء:

الأول: أنه من باب تجسم الإعمال، فالمعصية تتجسم بما يؤلم كالعقارب فتكون عقاباً والطاعة تتجسم بما يلائم فتكون ثواباً.

الثاني: أنها من قبيل الآثار الوضعية للطاعة والمعصية تظهر في الآخرة وهي الثواب والعقاب، فهما يترتبان قهراً على الطاعة والمعصية.

الثالث: أنَّ الثواب والعقاب عمل إختياري للمولى وهو الذي أوعد على المخالفة بالعقاب وعلى الطاعة بالثواب، فيكون من باب المُجازاة التي قررها المولى نفسه.

ومن الواضح أنه لا مجال لحكم العقل بقبح العقاب الأخروي بلا بيان على الرأي الأول والثاني لأنهما قهريان مترتبان على العمل، فلا بد من إدعاء ذلك على الرأي الثالث، ولكن لا سبيل الى أن يحكم العقل بقبح العقاب على المخالفة مع عدم البيان مع عدم علمه بالملاك الذي على أساسه أوعد الشارع المطيع بالثواب والعاصي بالعقاب، فلا معنى لحكم العقل بقبح العقاب على المخالفة مع عدم البيان ولا بقبح العقاب على المخالفة مع البيان.