الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/07/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة العقلية/ الأدلة/ الدليل الرابع والخامس

الدليل الرابع: ما ذكره المحقق الأصفهاني قده وحاصله:

إنَّ الحكم الذي تدور الطاعة والعصيان مداره هو الحكم الحقيقي وهو الذي يكون موجباً لخلق الداعي عند المكلف للتحرك، وبمخالفته يتحقق عنوان العصيان وبامتثاله يتحقق عنوان الطاعة، ويترتب على العصيان العقاب وعلى الطاعة الثواب، وهذا الحكم الحقيقي منوط بالوصول لأنَّ الحكم قبل وصوله - وهو الحكم الإنشائي - ليس حقيقياً لأنه لا يحدث الداعي في نفس المكلف للتحرك، ومخالفة الحكم غير الحقيقي لا تحقق العصيان وبالتالي لا توجب إستحقاق العقاب، فالعقاب على مخالفة حكم غير واصل للمكلف مقطوع العدم، ولكن لا بملاك عدم البيان وإنما بملاك عدم التكليف، لأنَّ الحكم الحقيقي متقوم بالوصول كما مرَّ والمفروض عدمه، وفرق بين الملاكين.

فحاصل كلامه أنَّ الحكم قبل وصوله مجرد إنشاء وليس حكماً حقيقياً، وليس لهذا الإنشاء أثر في إحداث الداعي للتحرك وإنما يكون هذا الأثر بعد وصوله الى المكلف.

وإعترض عليه:

أولاً: لو سلَّمنا مقدمات المذكورة في هذا الدليل ولكن لا يثبت بها ما هو المراد من (الوصول) الذي لا يكون الحكم حقيقياً ومحدثاً للداعي في نفس المكلف إلا به، فهل المراد به خصوص الوصول العلمي أم الأعم منه ومن الوصول الإحتمالي؟ وهل هناك مانع من القول بأنَّ التكليف بوصوله الإحتمالي يكون موجباً لخلق الداعي في نفس المكلف للتحرك؟

وبذلك يبقى النزاع قائماً، لأنَّ الطرف المقابل يقول بلزوم طاعة التكليف المحتمل لأنه تكليف المولى، وهذا يعني أنَّ الوصول الإحتمالي كافٍ في إيجاد الداعي للتحرك.

وثانياً: أنَّ التكليف الحقيقي متقوم بجعل ما يقتضي الداعوية وليس جعل ما يمكن أن يكون داعياً للتحرك كما فسَّره وأنه خصوص التكليف الواصل، وأنَّ غير الواصل لا يمكن أن يكون داعياً للتحرك فلا يكون تكليفاً حقيقياً، ومعه يقبح العقاب على مخالفته، والفرق بينهما يتضح باستذكار ما ذكره في بحث الواجب المعلق، وحاصله:

الواجب المعلق هو ما يكون التكليف فيه فعلياً والواجب معلَّق على أمر غير مقدور للمكلّف وهو الوقت، فالتكليف بالصوم مثلاً ثابت قبل الفجر ولكن المكلَّف به منوط بحلول الوقت، ووقع الكلام بينهم في إمكانه أو إستحالته، وذهب والمحقق الإصفهاني قده الى الإستحالة، وذلك لأنَّ التكليف عبارة عن جعل ما يمكن أن يكون باعثاً ومحركاً وهذا لا يمكن أن يكون متعلقاً بأمرٍ إستقبالي لإنَّ إمكان البعث يلازم إمكان الإنبعاث، فكلما كان التحرُّك ممكناً كان التحريك كذلك وكلما كان التحرُّك مستحيلاً كان التحريك مثله، وفي الواجب المعلَّق حيث أنَّ التحرُّك محال إذ لا يمكن التحرك نحو الصوم قبل الفجر فلا يمكن التحريك أي لا يمكن أن يكون الوجوب قبل الفجر فعلياً والواجب يكون إستقبالياً، لأنَّ معناه التفكيك بين البعث والانبعاث، وهذا الكلام متفرِّع على تفسيره التكليف بجعل ما يمكن أن يكون باعثاً ومحركاً ومحدثاً للداعي في نفس المكلف، وحيث أنَّ البعث والتحريك في الواجب المعلَّق لا يمكن أن يكون باعثاً لإستحالة الإنبعاث فالبعث مستحيل أيضاً للملازمة بينهما، فيكون البعث والتحريك والوجوب الفعلي قبل الفجر محالاً، فالواجب المعلَّق محال.

وقد طبق هذه الفكرة في محل الكلام لإثبات إستحالة ثبوت التكليف مع عدم الوصول، وذلك لإستحالة التحرك مع عدم الوصول فلا تكليف حقيقة، لأنَّ التكليف الحقيقي كما تقدم هو ما يمكن أن يوجد الداعي في نفس المكلف والتكليف مع عدم الوصول ليس كذلك، وحاصل الإعتراض الثاني هو المناقشة في أصل المبنى وهو أن َّالتكليف الحقيقي متقوم بجعل ما يمكن أن يكون محركاً وباعثاً، وإنما التكليف الحقيقي متقوم بجعل ما فيه إقتضاء الداعوية والبعث والتحريك، لا أنه يمكن أن يكون محركاً بالفعل، ومن الواضح أنَّ التكليف قبل وصوله الى المكلف فيه إقتضاء التحريك والبعث وإيجاد الداعي في نفس المكلف للتحرك وإن لم يكن محركاً بالفعل لإناطة التحرك بالوصول، ومعه يكون تكليف حقيقياً.

ولو سلَّمنا ما قاله من أنَّ التكليف الحقيقي متقوم بما يمكن أن يكون داعياً، فمع ذلك يمكن أن نفسره بما يمكن أن يكون داعياً ولو في المستقبل، ولا إشكال في أنَّ التكليف قبل وصوله يمكن أن يكون محركاً، وأما إشتراط كونه محركاً بالفعل كما ذكر فلا دليل عليه ولا موجب له حتى يقال بإستحالة الواجب المعلق ولا يوجد تكليف الحقيقي قبل الوصول وفي محل الكلام.

الدليل الخامس: للمحقق الأصفهاني قده أيضاً:

فبعد أن ذكر الدليل المتقدم قال إنه يُثبِت عدم العقاب بملاك عدم التكليف ولكنه غير قاعدة قبح العقاب بلا بيان لانها تثبت قبح العقاب بملاك عدم البيان على التكليف والذي يستبطن وجود التكليف إلا أنَّ البيان عليه غير تام، فلا بد من الإستدلال على القاعدة ببيان آخر غير الدليل الرابع، هذا أولاً.

وثانياً: لا يصح الإستدلال على أمر متفق عليه - وهي قاعدة قبح العقاب بلا بيان - بأمر مختلف فيه وهو تقوم التكليف الحقيقي بالوصول العلمي، فلا بد من إقامة دليل آخر على القاعدة، وهو الدليل الخامس، وحاصله:

إنَّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان عبارة عن حكم عقلي عملي ثابت بملاك الحسن والقبح، وهو يرى - خلافاً للمشهور - أنَّ مسألة التحسين والتقبيح العقليين من القضايا المشهورة (التأديبات الصلاحية) والتي حقيقتها هي تطابق آراء العقلاء عليها ولا وجود لها من دون هذا التطابق، فلا حسن للعدل لولا تطابق أراء العقلاء عليه وكذا لا قبح للظلم لولا ذلك، وأما منشأ هذا تطابق آراء العقلاء فلأجل حفظ النظام، وقبح العقاب بلا بيان هو مصداق من مصاديق الظلم الذي تطابقت آراء العقلاء على قبحه فيكون قبيحاً.