44/07/13
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة العقلية/ الأدلة
كان الكلام في أدلة البراءة العقلية ومنها أن يقال لا إشكال في أنَّ هناك بناء من قبل العقلاء على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ومن عدم ردع الشارع نستكشف إمضاء هذه القاعدة عند الشارع وهو المطلوب.
ولاحظنا عليه بملاحظتين وحاصل الثانية هي أنَّ هذا الدليل ينتج البراءة الشرعية وكلامنا في البراءة العقلية، فيكون حال الإمضاء هنا حال أدلة البراءة الشرعية من الآيات والروايات فالمستفاد منها هو البراءة الشرعية لا العقلية.
ويمكن الخدشة فيها وذلك بإعتبار أنَّ ما أمضاه الشارع هو ما إستقر عليه بناء العقلاء وهو البراءة العقلية فالممضى هو البراءة العقلية لا الشرعية.
الدليل الثاني: ما عن المحقق النائيني قده في فوائد الأصول[1] ، وحاصله:
إنَّ قبح العقاب مع عدم البيان الواصل ينشأ من جهة أنَّ فوات مراد الشارع ليس مستنداً الى المكلف في حالة عدم البيان وإنما هو مستند إما الى المولى نفسه فيما إذا لم يُقم البيان على تكليفه وإما الى العوارض الأخرى التي تحول دون وصول الأحكام الشرعية الى المكلف، وعلى كلا التقديرين لا يكون المكلف مسؤولاً عن هذا التفويت فلا معنى لعقابه من جهة تفويت مراد المولى وإنما يستحق ذلك إذا كان التفويت مستنداً إليه، ومع عدم مسؤوليته على التفويت يكون عقابه قبيحاً بحكم العقل.
ثم ذكر أننا نلتزم بقبح العقاب مع عدم البيان على التكليف أصلاً، أي إذا جعل الشارع تكليفاً ولم يصدر منه البيان عليه فهنا نلتزم بقبح العقاب أيضاً ولكن بملاك آخر وهو أنه لم يصل الى مرحلة الإرادة المستلزمة لإصدار الأمر به، فمع مخالفة العبد له لا يستحق العقاب لعدم وجود إرادة المولى فلم يحصل تفويت لمراده أصلاً.
فقبح العقاب الثابت في الحالة الأولى يكون بملاك أنَّ العبد لم يكن سبباً في تفويت المراد على المولى، وفي الحالة الثانية بملاك عدم التفويت لعدم الإرادة من المولى أصلاً، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان ثابتة إما بالملاك الأول وإما بالملاك الثاني.
ولوحظ عليه: بأنَّ من ينكر هذه القاعدة لا يقول أنَّ العبد يستحق العقاب باعتبار تفويته لمطلوب المولى ومراده حتى يقال أنَّ العبد ليس سبباً في هذا التفويت وإنما يقول بإستحقاق العقاب بإعتبار أنَّ مخالفة التكليف - ولو كان محتملاً - خروج عن زي العبودية وتمرد عليه، بل مخالفة تكليف المولى هو الملاك تام لإستحقاق العقاب، كما هو الحال في موارد التجري التي ليس فيها تفويت للغرض أصلاً ومع ذلك يقال بإستحقاقه العقاب ولكن بملاك التمرد على المولى والخروج عن حق الطاعة الذي يحكم به العقل، فهذه الدعوى لا يمكن ردها بدعوى أنَّ العبد لم يفوِّت على المولى غرضه.
والحاصل: إنَّ ملاك الإستحقاق المدعى ليس هو التفويت حتى يقال أنه لا يستند الى العبد فلا يستحق العقاب بل هو بملاك مخالفة التكليف المشكوك بدعوى أنه خرق لحق الطاعة وتمرد على المولى.
الدليل الثالث: ما عن المحقق النائيني قده أيضاً في أجود التقريرات[2] وحاصله:
إنَّ الأحكام الواقعية وغيرها - كالأمور التكوينية - إنما تكون محركة للعبد بعد وصولها إليه وأما قبل وصولها فلا يكون فيها إقتضاء التحريك، فإنَّ المحرَّك للعبد هو الوجود العلمي للشيء وليس وجوده الخارجي، فإذا وصل التكليف الى العبد وعلم به كان محركاً له فإن لم يتحرك كان مستحقاً للعقاب لأنه خالف تكليفاً فيه إقتضاء التحرك، وأما إذا فرضنا أنَّ التكليف لم يصل الى المكلف فله وجود واقعي فقط وليس له وجود علمي، فليس فيه إقتضاء التحرك، فإذا لم يتحرك العبد فلا يستحق العقاب بحكم العقل لأنَّ عقابه يكون على مخالفة تكليف ليس فيه إقتضاء التحرك وهذا قبيح.
وهذا الدليل يتألف من صغرى وكبرى، أما الصغرى فهي إنَّ التكاليف إنما تكون محركة بوجوداتها الواصلة - أي بوجودها العلمي - لا بوجوداتها الواقعية، والكبرى أنَّ العقل يستقل بقبح العقاب على ترك التحرك مع عدم وجود ما يقتضي التحرك، وينتج أنَّ العقاب على عدم التحرَّك عن التكليف غير واصل قبيح بحكم العقل،
فالمكلف مأمون من مخالفة التكليف إذا لم يتم عليه البيان حتى لو كان ثابتاً في الواقع.
ولوحظ عليه: بأنَّ المحرك إما أن يكون محركاً تكوينيناً وإما أن يكون محركاً شرعياً، والأول هو ما ينشأ من الأغراض التكوينية كرغبات الإنسان وقواه كشرب الماء الناشئ من الحاجة اليه عند العطش، والثاني هو الغرض المولوي التشريعي وهو حكم العقل بلزوم إطاعة المولى في تكاليفه، أما بالنسبة الى الغرض التكويني فما ذكر - وهو أنَّ الشيء بوجوده الواقعي لا يكون محركاً للإنسان - صحيح وإنما الذي يحركه هو الشيء الواصل إليه فالإنسان لا يتحرك لطلب الماء عندما لا يعلم بوجوده وأما إذا كان عـالماً به فيتحرك لطلبه، فالشيء بوجوده الواصل هو المحرّك لا بوجوده الواقعي، ولكن وصول الشيء له مراتب فمنها وصوله على نحو اليقين والجزم وأخرى وصوله على نحو الإحتمال، كما أنَّ المحركية تختلف بإختلاف شدة الغرض وضعفه فالعطشان بدرجة ضعيفة قد لا يحركه الوصول الإحتمالي لو بدرجة ضعيفة من التحرك، وأما إذا اشتدت الحاجة وأشرف الإنسان على الهلاك فسوف يتحرك ويطلب الماء لو عن الوصول الإحتمالي، فللوصول مراتب ولا يمكن القول أنَّ الوصول العملي فقط هو الذي يكون محركاً لتحقيق الغرض.