الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/07/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة العقلية/ الأدلة

كان الكلام في الدليل الأول من أدلة البراءة العقلية، وحاصله هو أنَّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة إرتكازية عند العقلاء ومستقرة في نفوسهم وجرى بناؤهم على العمل بها.

ولكن المقصود من هذا الدليل فيه إحتمالات:

الأول: أن المقصود هو إثبات القاعدة في تكاليف المولى العرفي ثم يقاس عليه المولى الحقيقي فيقال إنَّ تكليفه أيضاً لا يكون مُنجَّزاً إلا إذا كان معلوماً وواصلاً الى المكلف، وعندئذٍ يصح العقاب على مخالفته، وأما إذا لم يكن كذلك فلا يتنجز على المكلف ولا يصح عقابه على مخالفته، وهو معنى قبح العقاب بلا بيان أي بلا وصول.

ولا بد في هذا الإحتمال من إثبات أنَّ تكاليف المولى العرفي المنجَّزة مختصة بما إذا كانت واصلة الى العبيد ومعلومة لديهم وإلا قبح عقابهم، ثم يقاس المولى الحقيقي على المولى العرفي.

الثاني: أنَّ ما ذُكر في الدليل هو منبه على وجود قاعدة عقلية وهي قبح العقاب بلا بيان، والمنبه هو ارتكازيتها عند العقلاء وعملهم بها وأنهم يلومون من يعاقب على مخالفة تكليف غير واصل الى المكلف.

الثالث: أن يقال إنَّ المقصود منه إثبات بناء من قبل العقلاء على العمل بهذه القاعدة فيما بينهم وفي تكاليفهم الخاصة بهم، وعندئذٍ نقول إنَّ هذا البناء العقلائي قد أمضاه الشارع في المجال الشرعي واستكشاف هذا الإمضاء يكون من عدم الردع عنه، وذلك لأنَّ هذا البناء وإن لم يكن ممتداً الى المجال الشرعي ولكنهم بطبيعتهم وسليقتهم سوف يعملون به في المجال الشرعي فيكون في معرض الإمتداد، فيثبتون التأمين عند عدم العلم بالتكليف الشرعي كما يثبتونه عند عدم العلم بتكليف المولى العرفي، وسواء إمتد عملهم الى المجال الشرعي أم كان في معرض الإمتداد فعلى كِلا التقديرين لا بد أن يردع الشارع عنه إذا كان لا يرضى به، ومن عدم الردع نستكشف الإمضاء.

والملاحظات على هذه الإحتمالات:

أما الأول فإنما يتم بعد دعوى عدم الفرق بين المولى الحقيقي والمولى العرفي فيقال ما يثبت للثاني يمكن إثباته للأول بلا فرق بين المولويتين، وذلك بأن يدعى أنَّ المولوية لها مفهوم واحد متواطئ فإذا ثبت في بعض المصاديق ثبت في الأخرى ولا فرق بين مصداق وآخر، وأما إذا قلنا إنَّ المولوية مقولة بالتشكيك ولها مراتب تختلف شدة وضعفاً فلا يمكن التعدي مما ثبت في المولويات العرفية الى المولوية الحقيقية، هذا مع الإلتفات الى أنَّ جميع المولويات العرفية مجعولة إما من المولى الحقيقي وإما من غيره ولذا تتحدد بحدود الجعل، وعادة ما تجعل في إطار التكاليف المعلومة لا مطلقاً، فمجرد قبح عقاب المولى العرفي لعبده عند عدم البيان لا يصحح لنا التعدي، ولا ضير في ثبوت ما إدعي في المرتبة الضعيفة من المولوية مع عدم ثبوته في المولوية الحقيقية، فإحتمال الإختلاف بين المولويات يمعنا من الجزم بالتعدي.

بل يمكن أن يقال إنَّ الصحيح هو الثاني أي أنَّ هناك تفاوت بين المولوية الحقيقية وبين المولوية العرفية وأنها مفهوم مشكك وليست مقولة بالتواطئ، ويمكن الإستدلال عليه بأنَّ المولوية ترجع الى حق الطاعة ولا بد حينئذٍ من التمييز بين المولوية الذاتية والمولوية المجعولة التي تتحدد بحدود الجعل، وهي عادة ما تتحدد بحدود التكاليف المعلومة الواصلة، بمعنى أنَّ هذا المولى ليس له حق الطاعة إلا في تكاليفه المعلومة والواصلة فإذا خالفها المكلف يستحق العقاب، وأما حيث لا يصل التكليف ولا يعلمه المكلف فليس هناك حق الطاعة وليس هو مولى بلحاظه، وأما المولوية الحقيقية فهي تثبت بملاكات أخرى غير ملاكات المولوية العرفية المجعولة كالخالقية والمنعمية والرازقية، وعلى أي حال يكفي الإحتمال في المنع من التعدي.

وأما الإحتمال الثاني الذي يدعى التنبيه على القاعدة العقلية فهو مُسلَّم في الجملة ولكن الكلام في أنَّ التنبيه المذكور هل يختص بالمولويات العرفية أم يعم المولوية الحقيقية أيضاً، فإن إدعي الشمول فهو أول الكلام وتكون هذه الدعوى مصادرة.

وأما الإحتمال الثالث الذي يقول أنَّ هناك بناء من العقلاء على أنَّ المولى العرفي ليس مولى إلا بلحاظ تكاليفه المعلومة والواصلة، ثم يقال إنَّ الشارع أمضى هذا البناء العقلائي في المجال الشرعي بالبيان المتقدم، وهذا أفضل من الوجهين المتقدمين، ولكن يلاحظ عليه - بعد تسليم البناء العقلائي المذكور في المولويات العرفية - بأمرين:

أولاً: إنَّ سكوت الشارع عن البناء العقلائي في المولويات العرفية لا ينحصر تفسيره بالإمضاء بنحو يُتعدى منها الى أغراضه وتكاليفه الشرعية ويقال أنَّ البراءة العقلية جارية في تكاليفه المعلومة وليس له حق الطاعة في تكاليفه المحتملة والمشكوكة، ويحتمل أنَّ سكوته عن السيرة المذكورة لأنه جعل البراءة الشرعية وسوّغ مخالفة التكليف المحتمل، فيمكن تفسير سكوت الشارع على أساس أنه جعل التأمين الشارعي في موارد التكاليف المحتملة لا على أساس الرضا بالقاعدة العقلية، فكأنّ الثابت عقلاً هو المولوية مطلقاً بلحاظ التكاليف المعلومة والمحتملة لكن الشارع يُثبت البراءة الشرعية في التكاليف المحتملة وعليه لا يكون سكوته كاشفاً عن الإمضاء.

وثانياً: إنَّ البراءة الثابتة بالإمضاء هي البراءة الشرعية لا البراءة العقلية وليست هي محل الكلام وإنما الكلام في البراءة العقلية في المجال الشرعي.