الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/07/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ تمهيد / التقديم على أساس القرينة النوعية

تقدم أنَّ المقصود بالقرينة النوعية هو أن يكون أحد الدليلين قرينة على الدليل الآخر ومبيناً له ولكن لا على أساس الإعداد الشخصي للمتكلم كما هو الحال في الحكومة التفسيرية أو التنزيلية أو المضمونية، وإنما يكون على أساس قانون من قوانين المحاورة التي يبني عليها العرف في مقام التفهيم والتفاهم، فالعرف هو الذي يرى أنَّ هذا الدليل مفسِّراً لذاك وأنه قرينة عليه كما هو الحال في التخصيص والتقييد، والإعداد نوعي فيها كما هو واضح، فيدعى أنَّ ما نحن فيه من هذا القبيل.

ومن هنا يظهر أنَّ ملاك التقديم هنا هو نفس ملاك التقديم في باب الحكومة بجميع أنواعها وهو التقديم على أساس القرينية وأن الدليل الحاكم يعتبر قرينة على الدليل المحكوم ومفسِّراً للمراد منه فيتقدم عليه تقدم المُفسِّر على المفسَّر، نعم يختلفان في الإعداد ففي باب الحكومة يكون شخصياً وفي القرينة النوعية يكون نوعياً، وتطبيقه هنا بأن يقال إنَّ تقدم الأمارات على الأصول العملية يكون على أساس القرينة النوعية، أو قل على أساس التخصيص بالمعنى الآتي.

تطبيقان:

الأول: التعارض بين الأمارة وأصالة البراءة:

قد يقال لأول وهلة لا معنى للتخصيص بين دليل إعتبار الأمارة ودليل أصالة البراءة عند التعارض بينهما إذ ليس بينهما عموم وخصوص مطلق حتى يقال بتقدم دليل إعتبار الأمارة بالتخصيص وإنما النسبة بينهما هي العموم من وجه، فقد تثبت الأمارة في مورد لا يكون في مقابلها أصالة البراءة كما لو دلت الأمارة على الترخيص فإنَّ البراءة لا تجري في الأحكام الترخيصية، وقد تجري البراءة في مورد ولا يكون في مقابلها أمارة على إثباته كالشك في الحكم الإلزامي مع عدم قيام الأمارة عليه، ويجتمعان في موارد أخرى كثيرة كما لو قامت الأمارة على الحكم الإلزامي وكان في قبالها أصالة البراءة لنفي هذا الحكم الإلزامي، فالنسبة بينهما في الواقع هي نسبة العموم والخصوص من وجه فما معنى تقديم دليل إعتبار الأمارة على دليل الأصل العملي؟

الجواب: المقصود بالتخصيص هنا ليس هو المعنى الإصطلاحي للتخصيص المتوقف على إفتراض النسبة العموم والخصوص المطلق بين الدليلين، وإنما المقصود به هو أنَّ ملاك التخصيص متحقق هنا، وقد تقدم التعرض له في الحكومة المضمونية، وحاصله:

إنَّ التعارض الحاصل في مادة الإجتماع إذا قدمنا البراءة فيه وذلك بإخراج مادة الإجتماع من دليل إعتبار الأمارة، فيكون العمل في مادة الإجتماع بدليل البراءة، ولازم ذلك إختصاص دليل إعتبار الأمارة بالموارد التي لا تجري فيها البراءة وهي موارد قيام الأمارة على الترخيص، وإختصاص دليل إعتبار الأمارة بهذه الموارد في واقعه إلغاء له، وذلك لأنَّ الترخيص لا يتوقف إثباته على جعل الحجية للأمارة الدالة عليه، لأنه يثبت بملاك الشك وعدم ثوت الإلزام، فلو لم يجعل الشارع الحجية للأمارة فالترخيص ثابت بالملاك المذكور، ومن هنا يكون جعل الحجية للأمارة الدالة على الحكم الترخيصي فقط بلا فائدة ولغو عرفاً.

وأما لو عكسنا وقدمنا دليل إعتبار الأمارة على دليل البراءة فلا يلزم أي محذور، وذلك بأن نقدم دليل الأمارة في مادة الإجتماع على دليل البراءة ولازمه إخراج مادة الإجتماع عن إطلاق دليل البراءة، فتختص البراءة بالموارد التي لا تقوم في قبالها أمارة ولا محذور فيه، بل عمل الفقهاء على ذلك حيث لا تجري البراءة إلا حيث لا يكون في قبالها أمارة، وعليه يتعين تقديم الأمارة في مادة الإجتماع.

والمحذور المتقدم يجعل دليل إعتبار الأمارة كالنص في مادة الإجتماع فيكون بمثابة الدليل الأخص، أي أنَّ النتيجة التي ترتبت على الأخصية تترتب في محل الكلام.

وبعبارة أخرى إنَّ العرف يرى لا مجال لرفع اليد عن دليل إعتبار الأمارة في مادة الإجتماع فيتعين رفع اليد عن إطلاق دليل البراءة فيها وتخصيصه بغير مادة الإجتماع وهي الموارد التي لا يكون في قبالها أمارة معارضة، هذا هو المقصود بالأخصية أي الوصول الى نتيجة التخصيص لوجود ملاكها في مقام، ومن هنا يعتبر قرينة نوعية لأنَّ الإعداد فيها إعداد نوعي.

الثاني: التعارض بين الأمارة وبين الإستصحاب:

ويأتي فيه الكلام نفس السابق، فالنسبة بينهما في الواقع هي نسبة العموم من وجه لأنَّ دليل إعتبار الأمارة له موارد تخصه كما لو لم تتحقق أركان الإستصحاب في موارد قيام الأمارة ، ولدليل الإستصحاب موارد تخصه كما لو تمت أركانه ولم تقم أمارة تدل على خلافه أي إرتفاع الحالة السابقة، وقد يجتمعان كما لو دلت الأمارة على إرتفاع الحالة السابقة وكان مقتضى الإستصحاب بقاؤها فيتعارضان في مادة الإجتماع، وهنا يأتي الكلام المتقدم فإذا قدمنا دليل الإستصحاب في مادة الإجتماع وعملنا به فلازمه إخراج مادة الإجتماع من إطلاق دليل إعتبار الأمارة، فيختص بالموارد التي لا يجري في الإستصحاب، وهو محذور لأنها موارد نادرة فإنَّ الغالب وجود إستصحاب مخالف لها كإستصحاب العدم إما المحمولي وإما النعتي، نعم في بعض الحالات النادرة - كحالة توارد الحالتين التي يتعارض فيها الاستصحابان وتتساقط، وحالات العلم الإجمالي التي تتعارض فيها الإستصحابات في الأطراف وتتساقط - قد تكون مورداً للأمارة، ويدعى بأنَّ حمل الأدلة الدالة على إعتبار الأمارة بألسنتها الكثيرة على هذه الموارد النادرة أمر مستهجن عرفاً، بينما العكس ليس كذلك، فإذا قدمنا دليل إعتبار الأمارة في مادة الإجتماع ومنعنا من شمول إطلاق دليل الإستصحاب لها فلازمه أن يختص دليل الإستصحاب بالموارد التي لا يكون في مقابله أمارة، وهذه موارد كثيرة فلا يلزم من هذا التخصيص الاستهجان العرفي، ومن هنا يكون دليل لإعتبار الأمارة كالنص وكالأخص في مادة الإجتماع، بمعنى أنَّ العرف يرى عدم إمكان رفع اليد عن إطلاق دليل إعتبار الأمارة في مادة الإجتماع بخلاف العكس.

هذا تمام الكلام في هذا البحث، ومحله كما تقدم في باب التعارض.

الأصول العملية:

الأول: أصالة البراءة

والكلام في البراءة يقع في مقامين رئيسيين البراءة العقلية والبراءة الشرعية:

المقام الأول في البراءة العقلية:

والمراد بها قاعدة قبح العقاب بلا بيان، أي أنَّ عقاب المكلف على تكليف من دون بيانه له قبيح عقلاً ولا يصدر من المولى تعالى، وهو معنى التأمين العقلي من ناحية التكليف المحتمل إذا لم يتم عليه البيان واتفقت المخالفة وكان ثابتاً في الواقع، نعم التكليف الواصل علماً أو بدليل معتبر العقاب على مخالفته لا يكون قبيحاً، والمشهور ذهب الى البراءة العقلية.

أدلة البراءة العقلية:

الدليل الأول أن يقال إنَّ هذه القاعدة إرتكازية وجدانية مستقرة في أذهان العقلاء وهم ينطلقون منها ويتعاملون بها، فلا يؤاخذون المكلف على مخالفة تكليف لم يتم عليه البيان لا واقعاً ولا ظاهراً، بل يلومون من يؤاخذ المكلف على تكليف من هذا القبيل.

قد يقال: إنَّ هذه القاعدة تعني أنَّ الجهل عُذر بنظر العقل، فدعوى أنَّ هذه القاعدة مستقرة في أذهان العقلاء قد يكون مخالفاً لما ثبت في بعض القوانين الوضعية من أنَّ الجهل ليس عذراً، وهذا يستلزم التشكيك في دعوى عقلائية القاعدة لأنَّ المقنن من العقلاء.

وجوابه: إنَّ القانون يعتبر الجهل ليس عذراً عندما يتم البيان على القانون، وتمامية البيان على القانون لا تعني إيصاله الى المكلف يداً بيد وإنما تعني جعل القانون في مظان الوصول إليه كالصحيفة الرسمية المختصة بنشر التشريعات والقوانين، وبه يتم البيان عليه، فالجهل مع تمامية البيان ليس عذراً حتى عند القائل بالبراءة العقلية، ومن هنا لا يكون ما ذُكر نقضاً على ما تقدم.

ولكن الغرض من ذكر هذا الدليل غير واضح وفيه إحتمالات:

الأول أنَّ الغرض منه هو إثبات هذه الدعوى ولكن في مجال المولويات العرفية، ويراد أن قياس تكاليف المولى الحقيقي به فيقال في المولويات العرفية أنَّ الجهل يعتبر عذراً وأنَّ العقلاء يدركون بعقولها قبح العقاب بلا بيان بمعنى أنَّ المولى العرفي يقبح منه أن يعاقب عبده على تكليف عبده على تكليف لم يتم عليه البيان، ثم يُسرَّى ذلك الى تكاليف المولى الحقيقي فيقال يقبح العقاب على مخالفة تكليفه الذي لم يتم عليه البيان ولو كان ثابتاً في الواقع.