الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/07/08

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ تمهيد / الإعتراضات على التقديم على أساس الحكومة

الحكومة المضمونية

هناك وجه آخر لتقديم الأمارات على الأصول العملية في فرض التعارض، كما إذا إقتضى الإستصحاب بقاء الحالة السابقة ودلّت الأمارة على ارتفاعها، وهو الحكومة المضمونية، وبيان المقصود منه يحتاج الى تمهيد مقدمة فنقول:

إنَّ القدر المتيقن من دليل إعتبار الأمارة هو الأمارة الدالة على الحكم الإلزامي، ومن هنا يكون كالنص فيها، وبعبارة أخرى لا يمكن إخراج الأمارة الدالة على الحكم الإلزامي من دليل إعتبارها مع بقاء الأمارة الدالة على الحكم الترخيصي وأما العكس فممكن، وهذا يعني أنَّ الأمارة الدالة على الحكم الإلزامي تشكل قدراً متيقناً من دليل الإعتبار.

ويستدل على هذا المدعى بأنَّ إخراج الأمارة الدالة على الحكم الإلزامي من دليل الإعتبار يلزم منه محذور بينما لا يلزم ذلك من إخراج الأمارة الدالة الحكم الترخيصي، وهذا المحذور هو أنَّ إختصاص دليل الإعتبار بالأمارة الدالة على الترخيص يساوق إلغاءه لأنَّ الترخيص في مورد قيام الأمارة على الحكم الترخيصي لا يحتاج الى جعل الحجية لها إذ يكفي في إثباته عدم ثبوت الإلزام مع الشك، فتخصيص دليل الحجية بالأمارة الدالة على الحكم الترخيصي لا تترتب عليه فائدة، بخلاف العكس فإذا أخرجنا الأمارة الدالة على الحكم الترخيصي من دليل الإعتبار وبقي الدليل شاملاً للأمارة الدالة على الحكم الإلزامي فلا يلزم منه أي محذور، لأنَّ إثبات الحكم الإلزامي بحاجة الى جعل الحجية للأمارة الدالة عليه.

هذا هو الوجه في دعوى أنَّ دليل الإعتبار كالنص في الأمارات الدالة على الأحكام الإلزامية، أو قل أنَّ الإمارة الدالة على الحكم الإلزامي هي القدر المتيقن من دليل الإعتبار.

إذا تمت هذه المقدمة فحينئذٍ يقال في مقام تقريب الحكومة المضمونية:

إنَّ كون دليل إعتبار الأمارة نصاً في الأمارات الدالة على الحكم الإلزامي يُستفاد منه - بمناسبات الحكم والموضوع - الفراغ عن وجود ما يدل على الترخيص والتأمين في مرتبة سابقة على جعل الحجية لهذه الأمارات، وإلا - أي لو كان الموجود في مرتبة سابقة هو التنجيز - فلا معنى لجعل التنجيز للأمارة فلو فرضنا أنَّ قاعدة الإشتغال العقلي والشرعي تجري في هذه الموارد ويثبت بها التنجيز فكون الأمارة الدالة على الحكم الإلزامي هي القدر المتيقن من دليل الإعتبار لا يكون له معنى، فالمدعى هو أنَّ مناسبات الحكم والموضوع العرفية تقتضي أنَّ الدليل الدال على إعتبار الأمارة كالنص في الأمارات الدالة على الأحكام الإلزامية، وقد فرض فيه الفراغ عن وجود دليل دال على الترخيص، ولولا جعل الحجية لهذه الأمارة لكان المورد من موارد الترخيص، وهذا نحو من أنحاء الحكومة، لأنَّ دليل إعتبار الأمارة يكون محدداً لما دلَّ على الترخيص في مرتبة سابقة، فلا يثبت في موارد قيام الأمارة على الحكم الإلزامي، وهذه ليست حكومة تفسيرية ولا تنزيلية وإنما هي حكومة مضمونية بمعنى أنَّ مضمون هذا الدليل يُفرض فيه بمناسبات الحكم والموضوع الفراغ عن مضمون دليل آخر ويكون محدداً له وحاكماً عليه.

ولوحظ عليها:

أولاً: إنَّ هذه الحكومة بهذا التقريب تعجز عن تخريج تقديم الأمارة على الإستصحاب التنجيزي أو الأصل كذلك كقاعدة الإشتغال، لأنها بحسب هذا التقريب تكون ناظرة الى الترخيص الثابت في مرتبة سابقة.

وثانياً: إنَّ هذا التقريب يفترض الفراغ عن وجود تأمين في مرتبة سابقة على جعل الحجية للأمارة، والسؤال ما هو الموجب لأن يكون التأمين المذكور ناشئاً من الأصول العملية الشرعية المؤمنة حتى يقال أنَّ الأمارة تكون حاكمة عليها!

ويمكن أن نفترض أنَّ هذا التأمين هو التأمين العقلي الناشئ من البراءة العقلية وهذا يكفي في إشباع الحيثية الموجودة في دليل الإعتبار، ولا موجب لفرض خصوص التأمين الحاصل من الأصول العملية الشرعية المؤمنة.

هذه هي الوجوه المذكور لتقديم الأمارة على الأصول العملية بما فيها الإستصحاب.

التقديم على أساس القرينة النوعية:

الوجه الأخير لتقديم الأمارات على الأصول هو ما إختاره السيد الشهيد قده وأطلق عليه التقديم على أساس القرينة النوعية، وذكرَ أنَّ تقدم أحد الدليلين على الآخر له ملاكان رئيسيان:

الملاك الأول: الورود وهو أن يرفع أحد الدليلين موضوع الآخر حقيقة، فينتفي الحكم بإرتفاع موضوعه ويكون العمل بالدليل الوارد، وقد تقدم تفصيله.

الملاك الثاني: القرينية وهي معنى واسع يشمل الحكومة بكل تقسيماتها، ومنها القرينة النوعية التي يدعيها في المقام، والمقصود بالقرينة هو أن نُفسّر المراد من أحد الدليلين بدليل آخر فيعتبر الثاني قرينة على المراد من الدليل الأول، وكبرى تقدم القرينة على ذي القرينة مُسلَّمة بلا إشكال.

وهذه القرينة تارة تكون شخصية وأخرى تكون نوعية، والمراد من القرينة الشخصية هي التي تكون معدة إعداداً شخصياً من قبل المتكلم نفسه لتفسير مراده من كلام آخر له، ولها صور:

فتارة تكون بلسان التفسير، وهي الحكومة التفسيرية المتقدمة، فتتقدم على المُفسَّر تقدم القرينة على ذي القرينة.

وأخرى تكون بلسان التنزيل كما إدعاه الشيخ الأنصاري قده في الحكومة، وأنَّ الأمارة تكون مُنزَّلة مَنزِلة العلم فيترتب عليها كل ما يترتب على العلم، ومنها إرتفاع موضوع الأصول العملية ولكن تعبداً.

وثالثة تكون باعتبار الحكومة المضمونية أي أنَّ أحد الدليلين فرض فيه الفراغ عن مضمون دليل آخر فيكون مُفسراً ومحدداً له ومبيناً للمراد الجدي منه.

والإعداد في جميع ذلك يكون إعداداً شخصياً من قبل المتكلم ولكن بألسنة مختلفة.

وفي مقابلها القرينة النوعية والمقصود منها هو أنَّ تفسير أحد الدليلين لدليل آخر ليس قائماً على أساس الإعداد الشخصي من قبل المتكلم بل هو قائم على أساس أسلوب عام عرفي يعتبر هذا الكلام قرينة على الآخر، وحيث أنَّ المتكلم من العرف فلا بد أن لا يتجاوز هذا الأسلوب العرفي في كلامه، ولو أراد غيره لصرَّح به، ومع عدم التصريح يكون موافقاً للعرف فيما بنوا عليه، فكأنَّ الكلام - بعد موافقته على ما عليه العرف - يكون مُعدَّاً من قبله، لكن الكاشف عن هذا الإعداد هو كاشف نوعي وليس شخصياً كما في القرينة الشخصية.