44/07/06
الموضوع: الأصول العملية/ تمهيد / الإعتراضات على التقديم على أساس الحكومة
قلنا أنَّ الأمارة إذا تعارضت مع الإستصحاب مثلاً بأن كان يقتضي بقاء الحالة السابقة عند الشك في بقائها لكن الأمارة قامت على ارتفاعها فيقع التعارض بينهما، فهل نقدم الأمارة أو لا؟
قد تُقدم الأمارة على أساس الورود، وذكرنا له أربع تقريبات، وتبيّن أنها غير تامة، وهذا معناه أنَّ موضوع الإستصحاب - وهو الشك - متحقق حقيقة عند قيام الأمارة المخالفة، فلماذا لا يجري الإستصحاب وتُقدم الأمارة عليه؟
من هنا لابد من إلتماس طريق آخر لتقديم الأمارة فنرجع الى التقديم على أساس الحكومة والتي تعني أنَّ دليل الأمارة لا يرفع موضوع الإستصحاب حقيقة وإنما يرفعه تعبداً، وقد تقدم أنَّ للحكومة تقريبان:
الأول الذي يعتمد على أنَّ الأصل أُخِذ في موضوعه الشك بخلاف الأمارة، فيقال لما كان المجعول في الأمارة هو الطريقية والعلمية فبقيامها على إرتفاع الحالة السابقة يرتفع الشك تعبداً، فكما يرفع العلم الوجداني موضوع الإستصحاب حقيقة فكذلك الأمارة المعتبرة المنزلة منزلة العلم ترفع موضوع الإستصحاب لكن تعبداً وهو معنى الحكومة.
وقد تقدمت الملاحظة عليه، وهي:
إنَّ الشك مأخوذ في موضوع كل منهما لُباً وواقعاً وذلك لإستحالة الإهمال في مقام الثبوت والواقع، فيستحيل ثبوت الأمارة لصورة العلم بالخلاف، وهذا يعني أخذُ عدم العلم في موضوع الأمارة كالإستصحاب، فتختص الأمارة بصورة عدم العلم بالواقع، هذا من ناحية ثبوتية.
ومن ناحية الإثبات فقد إدعي الفرق بين الأمارة والاستصحاب وهو أنَّ الشك أخذ في دليل الأصل ولم يؤخذ في دليل الأمارة فبقيامها تكون رافعة للشك تعبداً فيكون دليلها حاكماً على دليل الإستصحاب، وأما العكس فلا يصح لأنَّ الشك لم يؤخذ في دليل حجية الأمارة.
وتقدم جوابه أيضاً وأنه غير مطرد فقد نعثر على دليل من أدلة حجية الأمارة أُخذ الشك في موضوعه من قبيل قوله تعالى ﴿فَسۡـَٔلُوۤا۟ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾ بناءً على الإستدلال به على حجية خبر الواحد، وقد نعثر على دليل للأصل لم يؤخذ فيه الشك كما إدعي ذلك في قاعدة اليد وقاعدة سوق المسلمين بناءً على أنها ليست من الأمارات، فهذا التقريب غير تام.
الثاني الذي يُقرب تقديم الأمارة على الإستصحاب مع إفتراض أخذ الشك في موضوع كل منهما، وذلك لأنَّ المستفاد من دليل الإستصحاب هو قضية حقيقية شرطية وهي (يجب البناء على الحالة السابقة إذا كنت متيقناً بها على تقدير الشك في بقائها) فهذا أخذٌ للشك في موضوع الإستصحاب ولكنه على نهج القضية الحقيقية، فوجوب البناء على بقاء الحالة السابقة معلَّق على الشك في البقاء، وأما دليل الأمارة فمفاده حجية الأمارة واعتبارها علماً، ولا منافاة بين هذين الدليلين وذلك لوجوب البناء على الحالة السابقة مع الشك في بقائها وأما مع قيام الأمارة على إرتفاع الحالة السابقة فهي ترفع الشك الذي جُعل الإستصحاب معلقاً على تقدير وجوده، فيصبح المكلف عالماً تعبداً ولا يبقى لديه شك في بقاء الحالة السابقة، نعم إرتفاع الشك ليس حقيقياً وإنما هو نتيجة التعبد وهو معنى الحكومة، وهذا عملٌ بكلا الدليلين دليل الإستصحاب ودليل إعتبار الأمارة، حتى مع إفتراض أخذ الشك في موضوع كل منهما ولا منافاة بين مفاديهما.
الإعتراضات على تقديم الأمارة على الأصل على أساس الحكومة:
الإعتراض الأول للمحقق الخراساني قده وحاصله هو: إنَّ الحكومة مشروطة بالنظر أي بأن يكون الدليل الحاكم ناظراً الى الدليل المحكوم، والميزان في تحقق النظر هو لغوية الدليل الحاكم عند إفتراض عدم الدليل المحكوم، وهذا من قبيل (لا ربا بين الوالد وولده) الذي ينفي الحكم بلسان نفي الموضوع والذي لا معنى له مع إفتراض عدم الدليل على حرمة الربا، وهذا يعني أنّ الدليل الحاكم ناظر الى الأدلة الدالة على حرمة الربا ونافياً للحرمة عن هذا المورد بلسان نفي الموضوع، هذا هو الميزان في النظر، وهذا الميزان غير متحقق في محل الكلام لأنَّ دليل إعتبار الأمارة ليس له نظر الى دليل الإستصحاب حتى يكون حاكماً عليه بدليل أننا لو إفترضنا عدم الدليل على الإستصحاب فيبقى دليل الأمارة معقولاً ولا يكون لغواً، وهذا يعني أنه ليس ناظراً الى دليل الإستصحاب، ومعه يختل الشرط الأساسي في الحكومة وهو النظر.
وأجاب عنه المحقق النائيني قده بأن الحكومة على نحوين:
الأول: الحكومة التفسيرية بأن يكون الدليل الحاكم مفسراً للدليل الآخر ومبيناً للمراد منه، وهذا قد يكون صريحاً كما إذا ورد بتعبير: أي وأعني وأقصد، وقد لا يكون كذلك وإنما يكون مفسراً بحسب لسانه للدليل الآخر، وهذه الحكومة قد تنتج إخراج بعض الأفراد من الدليل المحكوم كما في المثال المتقدم وقد تنتج إضافة أفراد إليه كما في (الطواف في البيت صلاة) الذي يفيد إعتبار بعض شروط الصلاة في الطواف، وفي هذه الحكومة يعتبر النظر كما هو واضح.
الثاني: الحكومة التنزيلية وهي التي لا يعتبر فيها النظر ومحل الكلام منها، وذلك بأن يقول الشارع إني أعتبر الأمارة علماً، ومرجعه الى تنزيل الأمارة منزلة العلم، فكما أنَّ العلم الوجداني الحقيقي بارتفاع الحالة السابقة يرفع موضوع الإستصحاب فكذلك قيام الأمارة على إرتفاع الحالة السابقة، فيكون دليل إعتبار الأمارة حاكماً على دليل الإستصحاب ولو لم يكن ناظراً إليه.
والحاصل نحن نسلِّم إشتراط النظر لكن في الحكومة التفسيرية وأما في الحكومة التنزيلية والتي منها محل الكلام فلا يعتبر فيها النظر.