44/06/30
الموضوع: الأصول العملية/ تمهيد / تقديم الأمارات على الأصول وتقديم الأصول التنزيلية على غير التنزيلية
حاصل ما تقدم في مسألة حجية مثبتات الأمارة وعدم حجية مثبتات الأصول العملية هو:
يمكن تخريج الفرق بينهما على أساس ما تقدم من أنَّ الحكم الظاهري المجعول في باب الأمارات تمام ملاكه هو الكشف عن الواقع وهو في المدلولين بدرجة واحدة، بخلافه في الأصول العملية إذ لا كشف فيها عن الواقع، وتمام الملاك فيها هو إما أهمية نوع الحكم المحتمل كما في البراءة والإحتياط وإما أقوائية الإحتمال، والأول لا يلزم أن تثبت الأهمية فيه في لوازمه فقد يهتم الشارع بحكم من نوع ولا يهتم بحكم آخر يكوم لازماً للأول، فتقديم الحكم الأول على أساس الأهمية لا يعني تقديم لازمه على نفس الأساس، وهذا واضح.
وأما الإستصحاب فالوجه في عدم حجيته في مثبتاته بناءً على أنَّ الحكم الظاهري المجعول فيه هو أساس أقوائية الإحتمال بالنظر المجموعي والذي يلزم منه إختصاص الحكم الظاهري بخصوص المدلول المطابقي للإستصحاب ولا يشمل مدلوله الإلتزامي، وذلك لأنَّ هذا النوع نشأ من ملاحظة الموارد التي يتحقق فيها اليقين السابق والشك اللاحق وأنَّ الغالب فيها هو بقاء الحالة السابقة، فحكم المشرع ببقاء الحالة السابقة في هذه الموارد بلحاظ هذه الأغلبية، ولا يمكن تعدية ذلك الى لوازم الإستصحاب، فلو كان المستصحب كان حكماً شرعياً وكان يلزمه حكم آخر فليس فيه يقين سابق وإلا لجرى الإستصحاب فيه مباشرة، وهو من قبيل نبات اللحية اللازم لحياة زيد ولكنه خارج عن الدائرة التي لاحظها الشارع وحكم على أساسها طبقاً للغالب منها، وبناءً على هذا لا تكون مثبتات الإستصحاب حجة.
تقديم الأمارات على الأصول مطلقاً، وتقديم الأصول التنزيلية على غير التنزيلية
والسؤال في المقام كيف يتم تخريج تقديم الأمارة على الأصول العملية وتقديم الأصول التنزيلية على غير التنزيلية، مع العلم أنه أمر مسلَّم بينهم فلا يتوقف أحد في تقديم الأمارة على الأصل العملي، وكذا في تقديم الإستصحاب على الأصول البحتة، نعم قد يُستشكل في بعض وجوه التقديم لكنه أمر آخر غير التقديم المسلَّم عندهم، وإذا لم نقل بالتقديم لزمت مشكلة حقيقية لأنَّ أغلب الأمارات يوجد في مقابلها أصول عملية، فالتقديم أمر متفق عليه وإنما الكلام في تخريجه.
وهذا الكلام محله في بحث الإستصحاب والنسبة بين الأمارات والأصول في مقام علاج التعارض الواقع بينهما وهل ننتهي الى التساقط أم هناك ما يوجب تقديم أحدها على الآخر؟
ونحن نوجزه هنا فنقول:
أما مسألة تقديم الأمارات على الأصول العملية مطلقاً فتخريجه فيه آراء: الأول إنَّ هذا التقديم قائم على أساس التخصيص، الثاني أنه على أساس الحكومة، الثالث أنه على أساس الورود، وتفصيل ذلك:
أما الرأي الأول فيقول ليس المقصود من كون التقديم قائماً على أساس التخصيص هو أنَّ النسبة بين دليل الأمارة وبين دليل الأصل المقابل لها هي نسبة العموم والخصوص المطلق لوضوح أنَّ النسبة بينهما هي العموم من وجه، وذلك باعتبار شمول دليل الإستصحاب - مثلاً - لمورد وجود الأمارة وعدم وجودها، كما أنَّ دليل الأمارة يشمل المورد الذي يجري فيه الإستصحاب والمورد الذي لا يجري فيه، وهذا يعني أنَّ النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه ولكل منهما موارد تخصه، فمثلاً في موارد توارد الحالتين لا يجري الإستصحاب، وكذا في موارد العلم الإجمالي، ولكن قد تقوم الإمارة فيهما، وعليه فالمراد بالتخصيص هنا هو الحصول على نتيجة التخصيص وذلك بأن يقال:
إنَّ موارد جريان الإستصحاب من دون وجود أمارة في مقابله هي موارد كثيرة، وأما موارد وجود الأمارة من دون جريان الإستصحاب فهي قليلة ونادرة، فكل أمارة تدل على إثبات شيء يقابلها إستصحاب عدمه خصوصاً مع تعميم الإستصحاب الى إستصحاب العدم الأزلي، فإذا إتضح ذلك فهو يعني أنَّ تقديم الإستصحاب على الأمارة يلزم منه أن يبقى دليل الأمارة إما بلا مورد أو له موارد نادرة جداً، وهي الموارد التي تخص الأمارة والتي لا يكون في مقابلها إستصحاب، وإختصاص دليل حجية الأمارة بهذه الموارد النادرة أمر مستهجن، وأما إذا عكسنا الأمر وقدمنا دليل الأمارة على دليل الإستصحاب بإخراج مادة الإجتماع من دليل الإستصحاب فلا يلزم منه المحذور لبقاء موارد كثيرة تخص دليل الإستصحاب ولا يلزم منه تعطيل دليله أو حمله على الفرد النادر، ومن هنا لابد من تقديم الأمارة على الإستصحاب وإلا يلزم إما تعطيل دليلها وإما حمله على الفرد النادر، وهذا وإن لم يكن تخصيصاً ولكنه ينتهي الى نتيجة التخصيص وهي تقديم دليل الأمارة على دليل الإستصحاب، أي أنَّ مادة الإجتماع تخرج عن دليل الإستصحاب وتبقى داخلة في دليل الأمارة.
وبعبارة أكثر وضوحاً: إنَّ مادة الإجتماع لا تكون مشمولة لدليل الإستصحاب فيختص بغيرها للمحذور المتقدم، وهذا يعني أنَّ العمل في مادة الإجتماع يكون بدليل الأمارة.
ويلاحظ عليه: أنَّ هذا التقديم على أساس التخصيص بالمعنى المذكور متأخر رتبة عن التقديم على أساس الحكومة وعلى أساس الورود، وذلك لأنَّ التخصيص إخراج من الحكم فقولك (أكرم العلماء) و (لا تكرم فساقهم) لا يعني إخراج الفساق من الموضوع وإنما يعني أنَّ الفاسق عالم ولكن لا يثبت له الحكم، وأما في الحكومة والورود فالإخراج من الموضوع إما تعبداً أو حقيقة، والإخراج من الحكم يقع في مرتبة متأخرة عن الإخراج من الموضوع، بمعنى أنَّ الإخراج من الحكم يفترض ضمناً بقاء الموضوع، ففي المثال السابق الفاسق عالم ولكن لا يجب إكرامه، فالإخراج من الحكم مترتب على حفظ الموضوع وبقائه، فإذا فرضنا وجود دليل نافٍ للموضوع فينتفي الحكم بالتبع بطبيعة الحال ولا تصل النوبة الى نفي الحكم مع حفظ الموضوع، أي لا تصل النوبة الى التخصيص بالمعنى المذكور، فهناك ترتب بين التقديم على أساس التخصيص وبين التقديم على أساس الحكومة والورود.
والحاصل الملاحظة تقول: إنَّ الإلتزام بهذا الطرح في الرأي الأول موقوف على بطلان الرأي الثاني والثالث، فإن لم يمكن التقديم على أساس الحكومة وعلى أساس الورود تصل النوبة الى تقديم على أساس التخصيص.
وأما الراي الثاني: وهو التقديم على أساس الحكومة وله تقريبان:
التقريب الأول المعروف وهو أنَّ الشك أخذ في موضوع الأصل العملي ولم يؤخذ في موضوع الأمارة - والظاهر أنَّ المقصود منه أخذ الشك في الموضوع وعدمه ثبوتاً - ويترتب عليه تقديم الأمارة على الأصل لأنها باعتبارها علماً تعبداً تكون رافعة لموضوعه فيكون دليلها حاكم على دليله.
وقد مرت المناقشة فيه وحاصلها: إنّ دعوى عدم أخذ الشك في موضوع الأمارة له لازم لا يمكن الإلتزام به وهو أن تكون مطلقة وشاملة لموارد العلم بالواقع، فلو علم المكلف بالواقع وأن الأمارة غير مطابقة له فهل يمكن أن تكون ثابتة في حقه! وهذا يعني أنه لابد من أخذ عدم العلم في موضوع الأمارة كما أُخذ في موضوع الأصل العملي.
التقريب الثاني: إنَّ تعارض الأصل مع الأمارة وتقديمها عليه لا يعنى عدم العمل بالأصل وإنما نعمل بكل منهما إذ لا تنافي بينهما، وذلك باعتبار أنَّ مفاد دليل الإستصحاب هو قضية حقيقة مرجعها الى وجوب البناء على بقاء الحالة السابقة المتيقنة على تقدير حصول الشك في بقائها، ودليل إعتبار الأمارة يرفع الشك تعبداً - بناءً على مسلك جعل العلمية والطريقية - فيرتفع التقدير المذكور في القضية الحقيقية، فعدم جريان الإستصحاب باعتبار عدم تحقق ما عُلِّق عليه في حال وجود الأمارة في مقابله، لأنّ قيامها على إرتفاع الحالة السابقة يعني العلم بارتفاع الحالة السابقة تعبداً، فلا شك في البقاء حتى يجري دليل الإستصحاب، وهذا عمل بكلا الدليلين أما الدليل الحاكم - وهو دليل الأمارة - فبالعمل على طبقها وتقديمها على دليل الإستصحاب، وأما الدليل المحكوم - وهو دليل الإستصحاب كقضية حقيقية - فبالبناء على الحالة السابقة المتيقنة على تقدير حصول الشك فيها، ولا شك في هذا المورد في بقاء الحالة السابقة فينتفي الإستصحاب.