44/06/29
الموضوع: الأصول العملية/ تمهيد / المختار في منشأ الحكم الظاهري وتخريج الفوارق على أساسه
ذكرنا أنَّ الحكم الظاهري يمكن أن يكون له ثلاث مناشئ هي إما نوعية الحكم المحتمل أو قوة الإحتمال، وهذا تارة يكون الملحوظ فيه قوة الإحتمال في كل مورد مورد، وأخرى يكون الملحوظ هو المجموع بما هو مجموع، فيقال إنَّ مجموع هذه الموارد الغالب فيها هو بقاء الحالة السابقة، فهذه إحتمالات ثلاثة.
وبعد استبعاد أن يكون جعل الحكم الظاهري في باب الإستصحاب من الأول - أي نوع الحكم المحتمل - لإختلاف نوع الحكم المستصحب، واستبعاد أن يكون مجعولاً على أساس الميول الذاتية والطبعية، يدور الأمر فيه بين الاحتمالين الآخرين.
وتطبيق الثاني منهما ممكن ولا يواجه محذوراً واضحاً وذلك بأن نقول أنَّ الحكم الظاهري في باب الإستصحاب مجعول على أساس قوة الإحتمال بلحاظ المجموع بما هو مجموع، وذلك بافتراض أنَّ المشرع لاحظ موارد اليقين السابق والشك اللاحق ووجد أنَّ بقاء الحالة السابقة هو الأكثر فيها، فيحكم حكماً ظاهرياً بالبناء على بقاء ما كان في كل مورد من هذا القبيل، وهذا حكم ظاهري ناشئ من غلبة بقاء الحالة السابقة، فيحصل ظن ببقاء الحالة السابقة وأرجحيتها بالنسبة الى عدم البقاء.
وأما تطبيق الإحتمال الأول - وهو قوة الإحتمال بلحاظ كل مورد مورد - على الحكم الظاهري في باب الإستصحاب كما هو الحال في خبر الثقة فقد مر الإستشكال فيه، وذلك باعتبار أنَّ هذه الدعوى تبتني على أحد أمرين:
الأول أن يدعى أنَّ اليقين السابق يورث الظن بالبقاء، فدائماً إحتمال بقاء الحالة السابقة أرجح من إحتمال عدم البقاء.
ولاحظنا عليه بأنَّ اليقين بما هو يقين لا يورث الظن بالبقاء، وإنما ينشأ الظن بالبقاء من الحدوث أي من الملازمة بين الحدوث والبقاء، ولو بنحو الملازمة العادية، ويشهد لذلك أنّ اليقين في موارد عدم هذه الملازمة لا يورث الظن بالبقاء كما في موارد الشك في المقتضي.
وقبول هذه الدعوى متوقف على النظر في هذه الملازمة، وقلنا:
أولاً أنها غير واضحة في موارد الشك في المقتضي، فلا ملازمة بين حدوث الشيء وبين بقائه عندما يُشك في استعداده للبقاء الى زمان الشك.
وثانياً وحتى في موارد الشك في الرافع وإحراز استعداد الشيء للبقاء هذه الدعوى مبنية على دعوى أنَّ الغالب هو عدم الرافع وهي غير واضحة أيضاً.
ومن هنا يظهر أنَّ الصحيح هو أنَّ الوجه المتصور ثبوتاً والخالي من المحذور هو أنَّ ملاك الحكم الظاهري في موارد الأصول العملية التنزيلية هو قوة الإحتمال بالنظر المجموعي، بمعنى أنَّ الشارع عند ملاحظة مجموع الموارد التي يحصل فيها اليقين بحالة ثم يطرأ الشك في بقائها فإنه يرى أنَّ بقاء الحالة هو الغالب في سائر الموارد فيحكم حكماً ظاهرياً بإبقاء ما كان لأنَّ إحتمال البقاء أقوى من إحتمال عدم البقاء بالنظرة المجموعية.
وبناءً عليه يمكن تخريج الفوارق بين الأمارات وبين الأصول التنزيلية وهي:
أولاً أنَّ مثبتات الأمارات حجة دون مثبتات الأصول العملية.
وثانياً تقدم الأمارات على الأصول مطلقاً بالحكومة.
وذلك بأن يقال:
أما الأول فواضح لأنَّ تمام الملاك في حجية الأمارة هو درجة الكشف عن الواقع وأرجحيتها على إحتمال عدم الإصابة، ولا فرق في ذلك بين المدلول المطابقي والمدلول الإلتزامي لأنَّ درجة الكشف فيهما واحدة، فيكون خبر الثقة حجة في كلا مدلوليه، وهو معنى حجية مثبتات الأمارة.
وأما أنَّ مثبتات الأصول العملية - بما فيها الإستصحاب - ليست حجة فلأنَّ جعل الحجية للإستصحاب على أساس قوة الإحتمال بالنظر المجموعي وهي كما تقدم أنَّ الأغلب في موارد الإستصحاب هو بقاء الحالة السابقة الى زمان الشك فجعل الحجية للإستصحاب بناء على هذا، وعليه لا يلزم من جعل الحجية للاستصحاب في موارده جعل الحجية لمدلوله الإلتزامي، بل مدلوله الإلتزامي ليس فيه يقين سابق وشك لاحق، فالإستصحاب يجري في حياة زيد المتيقنة سابقة والمشكوكة لاحقاً، وأما لوازم الحياة كنبات اللحية فلا يقين سابق به، فالمداليل الإلتزامية خارجة عن هذه الموارد التي لاحظها الشارع وجعل الحجية على أساسها، ولذا يعجز دليل الإستصحاب عن إثبات الحجية له بلحاظ مدلوله الإلتزامي.
فإن تم ذلك في الإستصحاب فهو في غيره من الأصول العملية - كالبراءة والإحتياط - التي لا كاشفية فيها أوضح فإن الملحوظ فيها هو نوع الحكم المحتمل وهو في المدلول المطابقي غيره في المدلول الإلتزامي، وهذا يعني أنَّ مثبتات الأصول العملية ليست حجة، هذا في القضية الأولى.
وهذا الفرق بين الأمارات وبين الأصول العملية هو فرق ثبوتي واقعي، فمن هنا يقال: لا فرق في عالم الإثبات والصياغة بأي تعبير ورد في الدليل، فتارة يعبر عنه بــ (صدِّق الثقة) وأخرى بإعتبار الأمارة علماً، وثالثة بجعل التنجيز والتعذير، فهذه ألسنة متعددة وجوهرها واحد وهو الفرق الثبوتي المتقدم.
وقد يلاحظ عليه: بأنَّ غاية ما يثبت فيما تقدم هو أنَّ الحكم الظاهري إن كان ملاكه هو قوة الاحتمال بالنظر الفردي فهو أمارة، وإن كان قوة الإحتمال بالنظر المجموعي فهو أصل تنزيلي، وإن كان باعتبار أهمية نوع الحكم المحتمل فهو أصل عملي غير تنزيلي، هذا كله ثبوتاً، ولكن كيف يتم تميز ذلك إثباتاً ؟
والحاصل: كيف نعرف أنَّ الحجية في خبر الواحد هي مجعولة بملاك قوة الإحتمال بالنظر الإستغراقي، وأنَّها في الإستصحاب بالنظر المجموعي، وأنها في البراءة والإحتياط بملاك أهمية المحتمل ونوعه؟
والجواب عنه: هناك أمور واضحة لا يمكن التشكيك فيها، فمثلاً الحكم الظاهري في الإحتياط والبراءة مجعول على أساس نوع الحكم المحتمل لخلوهما عن الكاشفية عن الواقع، وإنما الكشف في الأمارات وادعي في الإستصحاب، فلا معنى لدعوى جعل الكاشفية لهما - أي الإحتياط والبراءة - على أساس قوة الإحتمال.
وبعبارة أوضح لابد من وجود ظن بالمدلول فيعتبره الشارع حجة بلحاظ درجة كشفه عن الواقع، وأما الفاقد لذلك فلا يمكن أن يكون جعله حجة إلا على أساس نوع الحكم المحتمل، فلا شك في جعل الحكم الظاهري في الأصول العملية غير التنزيلية.
وأما الأمارة والاستصحاب فبعد استبعاد جعل الحكم الظاهري فيهما على أساس نوع الحكم المحتمل لإختلاف الحكم فيهما يدور الأمر فيهما بين أن يكون جعله على أساس قوة الإحتمال بالنظر الإستغراقي أو بالنظر المجموعي.