الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/06/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ تمهيد / مناشئ الحكم الظاهري والمناسب منها للإستصحاب

مناشئ الحكم الظاهري

الحكم الظاهري الذي يُجعل في الأمارات والأصول مطلقاً - أي التنزيلية وغير التنزيلية - له مناشئ لابد أن يكون ناشئاً من أحدها:

المنشأ الأول أن يكون مجعولاً على أساس أهمية المحتمل فقط، فلا يدخل في جعله أي شيء آخر وإنما تمام الدخل يكون للمحتمل وأهميته، كما لو فرضنا أنَّ الأغراض الإلزامية كانت أهم عند الشارع من الترخيصية فيجعل الإحتياط، أو بعكس ذلك بأن يكون إطلاق العنان أهم عنده من الأغراض الإلزامية فيجعل البراءة، فالاحتياط حكم ظاهري نشأ من أهمية الأغراض الإلزامية عندما تتزاحم مع الأغراض الترخيصية في مقام الحفظ، والبراءة حكم ظاهري نشأ من أهمية الأغراض الترخيصية كذلك.

المنشأ الثاني أن يكون مجعولاً على أساس قوة الإحتمال في مجموع الأحكام في تلك الدائرة، بمعنى أنَّ قوة الإحتمال لا تلحظ بلحاظ كل فرد فرد وإنما تلحظ بنظرة مجموعية، فيقال إنَّ إحتمال المطابقة في أغلب هذه الموارد أكثر من إحتمال عدمها، كما لو فرضنا أنَّ الشارع لاحظ جميع الموارد في دائرة اليقين السابق والشك اللاحق وأنها تشترك في أنَّ إحتمال بقاء الحالة السابقة أكبر من إحتمال عدم بقائها، فيجعل الاستصحاب، وهذه الأقوائية ليست بلحاظ كل فرد فرد من هذه الموارد في هذه الدائرة وإنما هو بلحاظ مجموعها الكلي، فيحكم حكماً ظاهرياً على طبق أقوائية الإحتمال ولكن بهذه النظرة المجموعية، فيأمر المكلف بالبقاء على اليقين السابق كحكم ظاهري مبرزاً بذلك قوة إحتمال بقاء الحالة السابقة بالقياس الى إحتمال عدم بقائها باعتبار النظرة المجموعية المشار اليها.

هذا مع وضوح عدم اطراد أهمية المستصحب في باب الإستصحاب لاختلافه من مورد لآخر، فقد يكون حكماً إلزامياً أو حكماً ترخيصياً أو حكماً وضعياً.

المنشأ الثالث أن يكون مجعولاً على أساس قوة الإحتمال أيضاً ولكن بنظرة فردية، وذلك بأن يكون أحد الاحتمالين أقوى من الآخر دائماً وفي جميع الموارد، كما يدعى في جعل الحكم الظاهري في باب أخبار الثقات، ففي كل خبر ثقة يكون احتمال المطابقة أكبر من إحتمال عدم المطابقة لأنَّ المخبر ثقة يتحرز عن الكذب مهما كان مضمون الخبر.

المنشأ الرابع أن لا يكون شيئاً مما سبق، فتصل النوبة الى إعمال المرجحات الذاتية والتي لا إرتباط لها بالشبهة العارضة للمكلف، من قبيل ما ذكروا من وجود ميل طبعي في الإنسان الى الأخذ بالحالة السابقة، بل قالوا أنَّ هذا الميل موجود في الحيوانات أيضاً، ولا يمكن تفسير هذا الميل الطبعي بما تقدم، وإنما نفترض - فرضاً ثبوتياً - أنَّ الحكم الظاهري يجعل على أساسه فقط.

 

الحكم الظاهري المجعول في الاستصحاب:

والاستصحاب باعتباره أصلاً عملياً تنزيلياً لا يمكن أن يكون الحكم الظاهري فيه - وهو البقاء على ما كان - مجعولاً على أساس أهمية المحتمل لاختلافه بحسب الموارد وإنما يعقل هذا المنشأ في البراءة والإحتياط لأنّ نوع الحكم فيها معين دائماً، هذا في المنشأ الأول.

وأما الرابع فهو مستبعد ولا يحتمل أن يكون منشأً لجعل الشارع حكماً ظاهرياً على وفقه، فيدور الأمر بين جعل الحكم الظاهري على أساس قوة الإحتمال بالنظرة المجموعية وبين جعله على أساس قوة الإحتمال بالنظرة الفردية، وكل منهما ممكن ثبوتاً لكن الأقرب منهما تفسير الإستصحاب على أساس قوة الإحتمال بالنظرة المجموعية لا بالنظرة الفردية، وتوضيح ذلك:

إنَّ إفتراض كون الحكم الظاهري ناشئاً من قوة الإحتمال بالنظرة المجموعية لا يلزم منه محذور وذلك بأن نفترض أنَّ الشارع لاحظ جميع الموارد التي فيها يقين سابق وشك لاحق، وأنَّ الحالة السابقة باقية في أغلبها، فحكم ببقائها في كل مورد يشك المكلف في بقاء الحالة السابقة، وهذا في واقعه ترجيح على أساس قوة الإحتمال ولكن بالنظرة المجموعية.

وأما قوة الإحتمال بالنظرة الفردية فهل يمكن أن تكون منشأً لجعل الحكم الظاهري في باب الإستصحاب أو لا؟

وبعبارة أخرى في كل مورد من موارد الإستصحاب هل يكون إحتمال بقاء الحالة السابقة أكبر من إحتمال عدم بقائها؟

الجواب: إدُعي أنَّ إحتمال البقاء هو أكبر من إحتمال عدم البقاء دائماً، فإذا تمت هذه الدعوى أمكن القول أنَّ الشارع يجعل الحكم الظاهري إعتماداً على قوة الإحتمال بالنظرة الفردية، كما هو الحال في باب أخبار الثقات.

ومع تفسيره بذلك يأتي الكلام المتقدم من السيد الخوئي قده وهو أنَّ الإستصحاب أمارة، وذلك لأنَّ الحكم الظاهري فيهما - الأمارات والاستصحاب - نشأ من أقوائية الإحتمال بالنظرة الفردية.

وهذه الدعوى تنشأ من أحد أمرين:

الأول أن يقال إنَّ اليقين السابق يوجب الظن النوعي بالبقاء.

الثاني أن يقال إنَّ الغالب في الحادث هو البقاء، وهذا يرجع الى دعوى الملازمة بين الحدوث والبقاء.

أما الدعوى بحسب المنشأ الأول فلا يمكن قبولها وذلك باعتبار أنَّ اليقين ليس من موجبات حصول الظن بالبقاء، وإنما هو مجرد كاشف عن الحدوث، وهذا نظير اليقين بعدالة شخص مع الظن بمطابقة قوله للواقع، فالظن بمطابقة قوله للواقع نشأ من عدالته لا من اليقين بها، وما نحن فيه من هذا القبيل فاليقين بالحدوث لا علاقة له بالظن بالبقاء، وإنما الذي يوجبه هو نفس الحدوث.

فلابد من أن تكون هذه الدعوى مستندة الى المنشأ الثاني، وهو دعوى الملازمة بين الحدوث والبقاء فيحصل ظن بالبقاء لهذه الملازمة، فإذا حصل الشك في حادث معين أنه يبقى أو لا فيحصل الظن ببقائه إلحاقاً له بالأعم الأغلب، فيحصل الظن النوعي بذلك، فالصحيح هو الثاني.

ويلاحظ على هذه الدعوى:

أولاً إنَّ هذه الغلبة ليست واضحة في موارد الشك في المقتضي، نعم يمكن تصورها في الشك في الرافع بعد إحراز المقتضي، وقد نُسلِّم أنَّ الغالب هو البقاء بمقدار استعداد المقتضي لذلك، كما لو فرض أنَّ المقتضي لبقاء الإنسان حياً هو سبعين سنة، ولكن عند الشك في أصل الإستعداد والمقتضي كيف يقال أنَّ الغالب هو البقاء؟!

نعم قد تكون واضحة عندما نحرز وجود المقتضي ولكن سيأتي الإشكال فيها أيضاً.

وثانياً لو أحرزنا المقتضي واستعداد الشيء للبقاء وشككنا في الرافع فمع ذلك تبقى الغلبة المدعاة - وهي أنَّ الحادث يبقى - غير واضحة وذلك باعتبار أنها ترجع الى دعوى غلبة عدم الرافع، وهي دعوى غير واضحة!