44/06/23
الموضوع: الأصول العملية/ تمهيد / المجعول في الأصول التنزيلية وغير التنزيلية والمناقشة فيه
تقدم أنَّ دليل إعتبار الأصل العملي تارة يفترض أنه يتكفل إثبات المنجزية والمعذرية فقط من دون عناية إضافية، وأخرى نفترض أنه يتكفل بيان عناية إضافية أكثر من مجرد التنجيز والتعذير، والأول يكون أصلاً عملياً غير تنزيلي كالإحتياط والبراءة الذي لا يتكفل إلا إثبات التنجيز والتأمين.
والثاني - هو محل الكلام - فرض فيه العناية الإضافية وتتصور على نحوين:
الأول تنزيل الحكم الظاهري منزلة الحكم الواقعي، وهذه العناية كأنها تقول كل مشكوك الطهارة طاهر - وهذا حكم ظاهري - ثم تقول وهذه الطهارة الظاهرية بمنزلة الطهارة الواقعية، وفيه تكون الحكومة واقعية بحسب تعبير المحقق الخراساني قده، وهي ترجع الى توسعة موضوع الحكم الى ما يشمل الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية، ولذا حكمَ بالإجزاء إذا ثبتت بالأصل طهارة ثوب ثم تبين نجاسته واقعاً، لأنَّ الحكم بصحة الصلاة في ثوب طاهر بطهارة هي أعم من طهارة الواقعية والظاهرية، وهذا بخلاف ما إذا ثبتت الطهارة بأمارة وتبين خطؤها فيحكم بعدم الإجزاء لأنها مجرد طريق الى الواقع والواقع على حاله، هذه هي العناية الأولى.
الثاني تنزيل الأصل نفسه منزلة العلم واليقين، إما باعتبار الكاشفية فيكون أمارة كما إدعي في الإستصحاب، وإما بلحاظ الجري العملي، كما يقال في الإستصحاب أنَّ إحتمال بقاء الحالة السابقة كاليقين ببقائها، فما يتطلبه اليقين من جري عملي يترتب على إحتمال البقاء في باب الإستصحاب، فيكون الأصل أصلاً تنزيلاً كما إختاره المحقق النائيني قده في الإستصحاب.
وأما باقي الأصول العملية فهي أصول بحتة لا يتكفل دليل إعتبارها إلا إثبات التنجيز والتعذير.
ويترتب على التنزيل بالنحو الثاني تقدم الأصل التنزيلي على غير التنزيلي، وذلك لأنَّ الشارع إعتبره علماً فيكون دليله حاكماً على دليل الأصل غير التنزيلي لأنَّ الثاني موضوعه الشك والأول باعتباره علماً يكون رافعاً لموضوعه وحاكماً عليه.
ولو فرضنا أنَّ ما ذُكر يبرر تقديم الأصل التنزيلي على غير التنزيلي بالحكومة لكنه لا يستطيع تبرير تقديم الأمارات على الأصول التنزيلية إذا لا فرق بينهما بعد فرض أنّ كلا منهما إعتبر علماً!
وحاول المحقق النائيني قده الإجابة عن ذلك فذكر أنَّ المجعول في باب الأمارات هو الكاشفية بينما المجعول في الأصل العملي التنزيلي هو الجري العملي، فالاستصحاب أصل تنزيلي بنظره وليس أمارة، وعليه يكون تقديم الأمارة على الأصل التنزيلي واضحاً، وذلك لأنه يعتبر في الأصل التنزيلي عدم وجود كاشف عن الحكم الشرعي، والأمارة كاشفة عنه وبقيامها على الحكم الشرعي يرتفع عدم الكاشف المأخوذ في موضوع الأصل التنزيلي فتتقدم عليه بالحكومة.
ولكن يبقى السؤال عن وجه تقديم الأصل التنزيلي على غير التنزيلي مع فرض جعل الجري العملي في الأصل التنزيلي دون الكاشفية!
والحاصل: إن إدعي أنَّ المجعول في الأصل التنزيلي العلمية والطريقية كان تقديمه على الأصل غير التنزيلي واضحاً لكن تقديم الأمارات عليه ليس واضحاً، وإذا إدعي أنَّ المجعول في الأصل التنزيلي الجري العملي لا الكاشفية كان تقديم الأمارات عليه واضحاً لكن تقديمه على الأصل غير التنزيلي ليس كذلك.
ومن هنا ذهب السيد الخوئي قده الى أنَّ المجعول في الإستصحاب هو الكاشفية - كالأمارات - ولهذا يتقدم الإستصحاب على الأصول غير التنزيلية، وأما تقدم الأمارة على الإستصحاب فباعتبار أخذ الشك في لسان دليل حجيته وعدم أخذه في لسان دليل الأمارة، وقد تقدمت مناقشته وذلك باعتبار أخذ الشك في بعض ألسنة أدلة إعتبار الأمارة كقوله تعالى ﴿فَسۡـَٔلُوۤا۟ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾.
الملاحظات والإعتراضات:
أولا: يلاحظ على ما ذكره المحقق النائيني قده بأنَّ قوله: أنَّ المجعول في الأصول العملية التنزيلية هو الجري العملي، هل المقصود به الجري العملي على طبق الأصل من دون تنزيل، أو المقصود تنزيل الأصل منزلة العلم في جانب الجري العملي؟
وعلى كلا التقديرين لا يلزم من ذلك جعل الطريقية والكاشفية، أما على الأول فواضح إذ لا يعني إلا العمل على طبق الأصل، وكذا على الثاني فإن التنزيل المفروض في جانب العمل ولا علاقة له بالكاشفية، فالمجعول هو الأمر بالجري العملي على طبق الأصل في ظرف الشك تعبداً فلا يكون الإستصحاب من الأصول التنزيلية، بل هو كغيره من الأصول العملية.
والحاصل: أنَّ ما إلتزم به من تقديم الاستصحاب على الأصول العملية غير التنزيلية بالحكومة، وتقديم الأمارات على الأصول العملية التنزيلية بالحكومة أيضاً لا يمكن الجمع بينهما، لأنَّ تقديم الأصل التنزيلي على غير التنزيلي بالحكومة يعني أنَّ المجعول فيه هو الكاشفية والطريقية، ولكنه لا يناسب تقدم الأمارة عليه لأنَّ المجعول فيهما واحد وهو الكاشفية.
وثانياً: اعترض على السيد الخوئي قده بأنَّ إفتراض كون الملاك في الأصل التنزيلي هو الكاشفية إنما يُجعل فيما له درجة من الكشف عن الواقع فيتممها الشارع ويعتبره طريقاً الى الواقع، وأما ما لا كشف فيه أصلاً فلا يعقل جعل الكاشفية له، والاستصحاب كذلك فإن فيه إحتمالان إحتمال بقاء الحالة السابقة وإحتمال ارتفاعها وهما متساويان، وليس إحتمال البقاء أرجح من إحتمال الارتفاع حتى يتممه الشارع بالإعتبار، فترجيح إحتمال البقاء يكون من الترجيح بلا مرجح.