الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/06/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ تمهيد / الأصول العملية العقلية

الأصول العملية العقلية

الكلام السابق كان كله في الأصول العملية الشرعية وما هو الفرق بينها وبين الأمارات، والكلام هنا في الأصول العملية العقلية وهي التي يحكم بها العقل في ظرف الشك في الحكم الواقعي، ففي هذا الظرف جعل الشارع أصولاً ووظائف عملية لهذا الشك من دون أن تكون ناظرة الى الواقع فكذلك للعقل أحكام في ظرف الشك، فيحكم مثلاً بالاشتغال والإحتياط، كالحكم بمنجزية العلم الإجمالي في صورة الشك بالتكليف المقرون بالعلم الإجمالي، أو يحكم بالبراءة وقبح العقاب بلا بيان عند الشك في التكليف شكاً بدوياً، ومرجعه الى معذورية الجاهل عندما لا يقترن جهله بالعلم الإجمالي، وهذه هي البراءة العقلية.

ومن هنا تختلف الأصول العملية الشرعية عن الأصول العملية العقلية، فالأولى أحكام ظاهرية شرعية تحدد وظيفة المكلف وما هو موقفه العملي إتجاه التكليف المشكوك، وأما الثانية فهي أحكام عقلية ترتبط بتحديد حق الطاعة للمولى، ففي مورد يدرك العقل حق الطاعة للمولى فيحكم بالإحتياط وفي آخر لا يدرك ذلك فلا يثبت حق الطاعة فيه، كما في حالات الجهل بالتكليف والشبهات البدوية، بل يقبح العقاب في هذه الموارد والشارع لا يرتكب القبيح فيثبت التأمين، فهذه أحكام عقلية ترتبط بتحديد حدود حق الطاعة للمولى.

وعلى هذا الأساس إتفقوا على أنَّ الأصول العملية الشرعية مقدمة على الأصول العملية العقلية، والنكتة في ذلك هي أنَّ الأصول العقلية ترتبط بتحديد حق الطاعة للمولى وهذا يعني أنه فُرض فيها عدم تحديد الشارع الوظيفة العملية للمكلف في مقام الشك وإلا لم يحكم العقل بشيء، فحكم العقل مراعاةً لشأن المولى حيث لا يكون هناك تحديد من قبله، ومن الواضح أنَّ الشارع إذا حدد الوظيفة العملية عند الشك في التكليف وصرَّح بأنها البراءة مثلاً فلا يُصر العقل حينئذٍ على الحكم بالإحتياط، فالأحكام العقلية كلها منوطة بعدم وجود أحكام شرعية واقعية أو ظاهرية تحدد الوظيفة العملية تجاه الحكم المشكوك، فكما أنَّ الحكم الواقعي رافع لموضوع الحكم العقلي فكذلك الحكم الظاهري المجعول في ظرف الشك إذا وصل الى المكلف، فلا مجال لجريان الأحكام العقلية، هذا هو السر في تقديم الأصول العملية الشرعية على الأصول العملية العقلية.

الفرق بين الأصول العملية التنزيلية وغير التنزيلية

الكلام هنا في الفرق بين نوعين من الأصول العملية الشرعية وهي الأصول العملية التنزيلية وغير التنزيلية، وقد يطلق عليها الأصول العملية المحرزة وغير المحرزة، وجعلوا الإستصحاب من الأصول العملية التنزيلية والبراءة من غير التنزيلية، فقالوا هذا أصل محرز أو تنزيلي وهذا أصل غير محرز أو غير تنزيلي، وقد يعبر عن الثاني بالأصل العملي البحت.

للمحقق النائيني تحقيق معروف في مقام التفريق بين هذين النوعين من الأصول العملية، على اضطراب في كلماته، يقول في الفوائد في الجزء 3 ص16ما حاصله:

أنَّ القطع فيه ثلاث جهات:

الجهة الأولى: جهة كونه صفة قائمة بنفس القاطع.

الجهة الثانية: جهة كشفه عن متعلقه وهو المعلوم، ولا يمكن التفكيك بين القطع وبين هذه الكاشفية لأنها من لوازم الذاتية له إن لم نقل أنها عينه وحقيقته.

الجهة الثالثة: البناء والجري العملي على وفق القطع، فالقاطع بوجود الأسد يفر منه، والعطشان القاطع بوجود الماء يتجه نحوه. [1]

والجهة الأولى لا يمكن أن تثبت لغير القطع، وإنما الكلام في الجهة الثانية وهي الكاشفية عن الواقع وفي الجهة الثالثة وهي الجري العملي الذي يتطلبه القطع، يقول المحقق النائيني قده أنَّ المجعول في الأمارات والطرق هو الجهة الثانية - أي الكاشفية والطريقية - وفسّرها بإعتبارها علماً، وذلك بأن يجعل الشارع الكاشفية لها تعبداً، وأما في باب الأصول العملية فالمجعول هو الجهة الثالثة في القطع أي الجري العملي، فكل ما يتطلبه القطع بالشيء من جري عملي في الخارج يثبته الشارع للأصل العملي، فإذا إقتضى القطع تحركاَ من القاطع اقتضى الأصل العملي نفس ذلك التحرك، فإذا فرضنا أنَّ المكلف كان قاطعاً ببقاء الحالة السابقة - كالنجاسة - فهذا القطع يتطلب جرياً عملياً معيناً وهو التحرك نحو تطهيره للصلاة فيه، فيقول له الشارع إذا كنت قاطعاً بالنجاسة السابقة وشككتَ في بقائها فاستصحبها، بمعنى البناء على بقائها.

ثم له كلام يقول فيه أنَّ المجعول في باب الطرق هو نفس الطريقية والكاشفية، وأما المجعول في باب الأصول العملية التنزيلية فهو الجري العملي والبناء على ثبوت الواقع عملاً من دون أن يكون هناك كشف عن الواقع، وأما المجعول في الأصول العملية غير التنزيلية فهو التنجيز والتعذير فقط كالبراءة المجعول فيها التعذير والتأمين والإحتياط المجعول فيه التنجيز، هذا ما يفهم من كلامه في هذا المقام[2] .

فما يفهم منه هو أنَّ الشارع إعتبر الأمارة علماً في جانب الإحراز والكاشفية والطريقية، وأنه إعتبر الأصول العملية التنزيلية علماً لكن في الجانب العملي، وأما غير التنزيلية فلم يعتبرها علماً في جهة من جهاته لا في الكاشفية ولا في جهة الجري العملي وإنما جعلها منجزة أو معذرة.

وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم كيف تكون الأصول العملية التنزيلية حاكمة على الأصول العملية غير التنزيلية وذلك باعتبار أنَّ الشارع إعتبر الأولى علماً ولو في الجانب العملي فترفع موضوع الأصول العملية غير التنزيلية، فيكون دليل الأصل التنزيلي حاكماً على دليل الأصل غير التنزيلي ورافعاً لموضوعه، وذلك لأنَّ غير التنزيلي موضوعه الشك وباعتبار الأصل التنزيلي علماً يرتفع الشك فيتقدم عليه بالحكومة.

ولوحظ عليه: بأنه لم يستدل على هذا التفريق بدليل سوى ما ذكره من أنَّ الأمارات لما كانت مفيدة للظن كانت قابلة لتتميم كشفها الناقص واعتبارها علماً وإلغاء إحتمال الخلاف تعبداً، بخلاف الأصول العملية فإنها لا تفيد الظن فلا تكون قابلة لتتميم الكشف.

وقد يقال يمكن التفريق بينهما وذلك بأن نلاحظ دليل إعتبار الأصل فإذا تكفل بإثبات المنجزية والمعذرية من دون عناية زائدة فهذا الأصل غير تنزيلي، وأما إذا فرضنا وجود عناية إضافية في الدليل فيكون الأصل تنزيلياً، وهذه العناية المفروضة تكون بأحد نحوين:

الأول: أن ينزل الحكم الظاهري منزلة الحكم الواقعي، فيقال مثلاً: إذا شككتَ في الطهارة والنجاسة فأنا أحكم بطهارته، وهذا حكم ظاهري مجعول في ظرف الشك لكن دليله يقول أنَّ الحكم بطهارته هي نفس الطهارة الواقعية، فتكون الطهارة الظاهرية بمنزلة الطهارة الواقعية تعبداً، وهذه عناية إضافية في دليل الأصل غير التنجيز والتعذير.

وهذا النحو من التنزيل يحتاج الى عناية إضافية في الدليل ولا يكفي فيه دليل الأصل العملي فقط، أو قل أنَّ التنزيل بهذه الصيغة تكون في طول الحكم الظاهري بمعنى لابد من إفتراض حكم ظاهري يُستفاد من الدليل ثم يأتي هذا التنزيل بعد ذلك ويقول أُنزل هذا الحكم الظاهري منزلة الحكم الواقعي، وحيث أنَّ الحكم الظاهري يثبت بدليل الأصل فيكون التنزيل في مرحلة متأخرة عن دليل الأصل، وهذا هو المقصود بعد إمكان إثبات العناية الإضافية بنفس دليل الأصل، فهناك طولية بين هذا التنزيل المتأخر عن الحكم الظاهري المتأخر هو عن الحكم الواقعي، ودليل الأصل يتكفل الحكم جعل الظاهري فلا يمكنه أن يتكفل هذا التنزيل، اللهم إلا أن يصرح بذلك في الدليل، ولكن لا يوجد مثل هذا التصريح.

الثاني: تنزيل الأصل نفسه منزلة العلم إما في الكاشفية - كما هو الحال في تنزيل الأمارة منزلة العلم - أو بلحاظ الجري العملي، وحينئذٍ إذا فرضنا أنَّ دليل الأصل يتكفل التنزيل بلحاظ الكاشفية فيكون الأصل أمارة كما إدعي في الإستصحاب، وإما أن يتكفل الدليل بتنزيل الأصل منزلة العلم في جانب الجري العملي فيكون الأصل أصلاً تنزيلاً كما إدعي أيضاً في الإستصحاب، لأنَّ ذلك هو المستفاد من دليله، وأما الأصل العملي فالمجعول فيه هو التنجيز والتعذير بلا عناية إضافية.

هذا والنحو الأول صعب تحققه وأما الثاني فهو المعروف.

ثم أنَّ الظاهر من المحقق الخراساني قده التفرقة بين الحكم بالطهارة على أساس قاعدة الطهارة وبين قيام الأمارة على الطهارة، فيحكم بعدم الإجزاء في الثاني إذا تبين خطأ الأمارة لأنها مجرد طريق للواقع إن أصابته نجزَّته وإن أخطأته فهو ثابت على ما هو عليه، فلابد من الحكم بعدم الإجزاء.

وأما إذا حكمنا بالطهارة على أساس قاعدة الطهارة فتصح الصلاة ونحكم بالإجزاء حتى إذا إنكشف الخلاف وكان الثوب نجساً واقعاً، وهذا من نتائج التنزيل الأول، أي تنزيل الطهارة الظاهرية منزلة الطهارة الواقعية.


[1] فوائد الأصول، الكاظمي ج3 ص16.
[2] المصدر السابق ص19.