44/06/21
الموضوع: الأصول العملية/ تمهيد / محاكمة الآراء وترجيح الأقرب منها
نقد الآراء المتقدمة وبيان الأقرب للقبول منها:
ذكرنا فيما تقدم أنَّ ترجيح بعض الآراء المتقدمة للتمييز بين الأمارات والأصول والأقرب منها هو الرأي الذي يستطيع أن يفسِّر لنا ظاهرتين مسلَّمتين عند الجميع، وهما حجية مثبتات الأمارة دون الأصول، وتعقل جعل الأمارة حجة إذا كانت مفيدة للظن دون الأصول العملية.
أما الرأي الأول القائل بأنَّ الفرق بينهما في نوع الحكم المجعول فإنه في باب الأمارات بمعنى جعل الطريقية والعلمية أي الأمارة علماً بينما المجعول في باب الأصول العملية هو الجري العملي، وعلى هذا الأساس يقال إنَّ مثبتات الأمارة تكون حجة دون الأصول العملية وذلك لأنَّ الشارع إعتبارها علماً والعلم بالشيء علم بلوازمه، بل يجب أن تتساوى درجات الإحتمال بلحظ المدلول المطابقي والالتزامي في مختلف مراتب الكشف، فالظن بالشيء ظن بلازمه وإحتمال الشيء إحتمال للازمه ..وهكذا، وحيث أنَّ الشارع إعتبر الأمارة علماً فمن قامت عنده الأمارة فكما يكون عالماً تعبداً بالشيء يكون كذلك عالماً بلازمه، فتكون مثبتات الأمارة حجة بخلاف الأصول العملية التي لم يجعل فيها العلمية والطريقية وإنما أُمِرَ فيها بالجري العملي على وفق مقتضى الأصل وهو لا يستلزم الجري العملي على طبق لازم مؤدى الأصل، فيمكن التفريق بينهما بلا إشكال، ومثاله الأمر باستصحاب حياة زيد والجري العملي على ذلك لأنه على يقين سابق من حياته، لكن هذا لا يلازم الأمر بالجري العملي على طبق لازم حياته - كنبات لحيته - لإمكان التفريق بينهما بلا محذور.
وإعترض عليه بأن ما ذكر من كون العلم بالشيء علم بلوازمه صحيح ولكنه في العلم الوجداني، وأما في المقام فهناك علم تعبدي باعتبار الشارع للأمارة، وهذا العلم التعبدي لا يلازم العلم التعبدي بلازمه، فيمكن أن يُعبدنا الشارع بالمدلول المطابقي دون الإلتزامي، ولا يوجد شيء واضح يدل على ضرورة أن يعبدنا الشارع بالمدلول الالتزامي إذا عبدنا بالمدلول المطابقي، فإمكان التفكيك بين الأمرين يمنع من الاستدلال على أنَّ مثبتات الأمارة حجة.
ومنه يظهر أنَّ مجرد جعل الطريقية والعلمية في باب الأمارات دون الأصول العملية لا يستطيع أن يبرر كون مثبتات الأمارة حجة لأنَّ غاية ما يفيده هو أنَّ الشارع جعل الأمارة علماً بلحاظ مدلولها المطابقي وأما بلحاظ مدلولها الالتزامي فلا دليل عليه، نعم إذا كان هناك إطلاق في دليل إعتبار الأمارة شامل لكلا المدلولين فنأخذ به بلا إشكال، لكن الكلام ليس في ذلك وإنما في فرض عدم الإطلاق في دليل الإعتبار، فهل يكفي لإثبات حجية الأمارة في مدلولها الإلتزامي مجرد جعل الطريقية أو لا يكفي ذلك ؟ الإعتراض يقول لا يكفي ذلك، ولابد من وجه آخر لتبرير حجية الأمارة في مدلولها الالتزامي.
وأما بالنسبة الى الظاهرة الثانية وهي عدم تعقل جعل الحجية في فرض الشك، وإنما يعقل جعلها في فرض الظن، وعلى أساسه قالوا إنَّ خبر الثقة يعقل جعله أمارة لأنه يفيد الظن، وأما الأصول العملية فليس فيها إلا الشك، والاحتمالان فيها متساويان، ولا معنى لأن يجعل هذا الإحتمال طريقاً الى الواقع دون الآخر وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، بخلافه في باب الأمارات فإنَّ المرجح موجود وهو الظن فيمكن تتميمه واعتباره طريقاً الى الواقع، فهل يمكن لمسلك جعل الطريقية تفسير هذه الظاهرة؟
يقول المحقق النائيني قده يمكن تفسير ذلك، أما الأمارات فحيث أنها كاشفة عن الواقع كشفاً ناقصاً فيمكن تتميم كشفها بالجعل الشرعي واعتبارها حجة فيكون المجعول فيها هو الطريقية والعلمية، وأما في باب الأصول العملية فليس هناك كشف عن الواقع فلا معنى تتميم كشفه ولا اعتباره طريقاً وكاشفاً تاماً عن الواقع بالتعبد الشرعي، هذا فارق بينهما.
وإعترض عليه بأنه لا موجب لإشتراط إفادة الظن في جعل الحجية بل يمكن جعلها وإن لم يُفد الظن وذلك باعتبار أنَّ المدعى في باب الأمارات هو أنَّ الشارع يجعل الطريقية الإعتبارية وأما الكشف الواقعي فيه فيبقى ناقصاً، والإعتبار كما قالوا سهل المؤونة فلا ضير في أن يعتبر الشارع الشك طريقاً للواقع، فيجعل الشك في الحالة السابقة مثلاً طريقاً الى الواقع ويأمر بالبناء عليه، وهو وإن كان مساوياً لإحتمال عدم بقاء الحالة السابقة لكن الشارع يعتبر إحتمال البقاء دون إحتمال عدم البقاء ولا إشكال فيه، فلا موجب لإشتراط الحجية وإعتبار الشيء كاشفاً عن الواقع أن يكون مفيداً للظن، بل الظاهر أنه يمكن جعل الحجية والطريقية التعبدية لكل شيء سواءً كان مفيداً للظن أو لم يكن كذلك.
ومن هنا يظهر أنَّ الرأي الأول - وهو مسلك جعل الطريقية والعلمية - لم يتمكن من تفسير هاتين الظاهرتين.
أما الرأي الثاني الذي يقول أنَّ الفارق بينهما هو في أخذ الشك في موضوع الأصل العملي ثبوتاً دون موضوع الأمارة، وبقطع النظر عن عدم تماميته في نفسه نقول إنه لا يستطيع أن يفسِّر الظاهرة الأولى أيضاً، فهل يكفي في تفسير حجية الأمارة في مثبتاتها أن يكون الشك غير مأخوذ في موضوعها! كما أنَّ مثبتات الأصول العملية ليست حجة لا يفسره أخذ الشك في موضوع الأصل العملي، ولا ربط واضح بين الأمرين لا في باب الأمارات ولا في باب الأصول العملية، هذا بلحاظ الظاهرة الأولى.
وكذا بلحاظ الظاهرة الثانية فلا يستطيع هذا الرأي أن يفسر لنا عدم تعقل جعل الحجية في باب الأصول العملية مع تعقل جعلها في باب الأمارات، فما هي العلاقة بين أخذ الشك في موضوع الأصل العملي وعدم أخذه في موضوع الأمارة من جهة وبين كون إحتمال المطابقة في الأمارة أكبر منه في الشك في باب الأصول العملية من جهة أخرى، والحال أنهم صرحوا بأنَّ المقصود من الشك المأخوذ في موضوع الأصل العملي - بل حتى في دليله - هو بمعنى الظن غير المعتبر وهو أعم من الإحتمال المساوي وغير المساوي، فيصدق عليه الشك باعتبار عدم حجيته وإن كان راجحاً، فأخذ الشك في موضوع الأصل العملي لا يعني إستحالة جعل الحجية له، خصوصاً إذا كان أرجح من الإحتمال الآخر ولم يكن معتبراً.
وأما الرأي الثالث - الذي يدعى أنَّ الفرق بينهما في مقام الإثبات ولسان الدليل بمعنى أنَّ الأصل العملي أُخذ في دليله الشك بينما لم يؤخذ في دليل الأمارة - فنفس الكلام يأتي فيه فبقطع النظر عن الإيراد المتقدم وأنه غير تام في نفسه هو لا يستطيع أن يفسِّر لنا الظاهر الثانية وهي عدم إمكان جعل الحجية في باب الأصول العملية وإمكان جعلها في باب الأمارات، ومجرد أخذ الشك في دليل الأصل وعدم أخذه في دليل الأمارة لا يمكنه تفسير ذلك.
فتبين من هذا أنَّ هذه الآراء الثلاثة لا تصلح لتفسير هذه الظاهرة.
وأما الرأي الرابع فيمكنه أن يفسّر هاتين الظاهرتين من دون أن يلزم منه محذور، ولذا يكون أقرب للقبول من الآراء الأخرى، أما الظاهرة الأولى فتفسيرها بحسب هذا الرأي هو أنَّ تمام الملاك لجعل الحجية للأمارة هي درجة الكشف وقوة الإحتمال، ودرجة الكشف في الأمارة بالنسبة الى مدلولها المطابقي والالتزامي واحدة فالدليل الذي يجعل الحجية للأمارة بلحاظ مدلولها المطابقي - مع أنَّ تمام الملاك في ذلك هو درجة الكشف - لابد أن يجعل الحجية لمدلولها الإلتزامي أيضاً لوحدة الملاك فيهما.