44/06/17
الموضوع: الأصول العملية/ تمهيد / المختار في أصولية المسألة
المختار في ميزان أصولية المسألة
تبيّن أنَّ الوجه الأقرب الى القبول لإدخال الأصول العملية في علم الأصول هو الوجه الأول الذي ذكره المحقق الأصفهاني قده وإختاره السيد الخوئي قده، وحاصله:
أنَّ الميزان في دخول المسألة في علم الأصول هو أنها في مقام تحصيل الحجة على الحكم الشرعي بحسب تعبير المحقق الأصفهاني، أو في مقام إثبات الحكم الشرعي وجداناً أو تعبداً أو تنجيزاً وتعذيراً بحسب تعبير السيد الخوئي، وبذلك تدخل جميع المسائل الأصولية في علم الأصول، ومنها الأصول العملية.
ثم على تقدير تسليم ما ذكره المحقق الخراساني قده من أنَّ أصالة الحل وقاعدة الطاهرة لا تقع في طريق إستنباط الحكم الشرعي وأنها من باب تطبيق الحكم الكلي على أفراده، لا نُسلِّم أنَّ هذه المسائل من القواعد الفقهية لوجود فارق بينهما يمنع من إدراجها في القواعد الفقهية، وذلك باعتبار وجود خصوصية تميز هذه الأصول عن القواعد الفقهية وهي أنَّ هذه الأصول مما ينتهي اليها الفقيه في مقام العمل والفتوى بعد اليأس من العثور على الدليل الإجتهادي - ولو فرض موافقته لها - لأنها تقع في رتبة متأخرة عن الأدلة الإجتهادية ولا تصل النوبة إليها إلا بعد فرض عدمها، وذلك باعتبار ما تقدم من أنَّ الأصول العملية مجرد وظائف لتحديد الموقف العملي تجاه الحكم الشرعي المشكوك، فالمفروض فيها تحير المكلف وشكه في الحكم الواقعي، فإذا فُرض علمه بالحكم الواقعي وجداناً أو تعبداً فلا تصل النوبة الى الأصول العملية لإنتفاء الشك بالحكم الواقعي، فهذه الوظائف لا تعطى للمكلف إلا بعد فقدان الدليل على الحكم الواقعي، فيمكن القول أنَّ الأصول العملية وهكذا قاعدة الطهارة وأمثالها لا يستطيع المجتهد أن يستند إليها في مقام الإفتاء إلا مع اليأس من العثور على الدليل الإجتهادي - من دون فرق بين أن يكون موافقاً أو مخالفاً لها -، وهذه الخصوصية متحققة في مثل قاعدة الطهارة ليست مأخوذة في القواعد الفقهية فلا تدخل فيها.
وأما القواعد الفقهية فهي أحكام شرعية كلية تثبت بأدلتها وليست متأخرة عن الأدلة الإجتهادية، ولم يؤخذ فيها اليأس من العثور على دليل إجتهادي، فمثلاً قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز ثبتت بأدلة إجتهادية دلت عليها فتقع في عرض الأدلة الإجتهادية الأخرى وليست متأخرة رتبة عنها، والرجوع إليها ليس مشروطاً باليأس من العثور على دليل إجتهادي في تلك المسألة، ولو عثرنا على دليل إجتهادي في مسألة الفراغ مثلاً فإن كان منافياً لها فسيكون معارضاً، وإن كان موافقاً لها فيعتبر دليلاً آخر على المسألة، وهذا يعني أنَّ الرجوع الى قاعدة الفراغ ليس مشروطاً باليأس من العثور على دليل إجتهادي في تلك المسالة ولو كان موافقاً لها.
فلو فرضنا أنَّ لدينا رواية معتبرة تدل على حرمة كل مسكر، ولدينا دليل آخر يدل على قاعدة الفراغ فكل منهما حكم كلي ثبت بدليل إجتهادي، فكما يمكن تطبيق الدليل الأول على مصاديقه الخارجية لإثبات الحرمة لها كذلك يمكن تطبيق قاعدة الفراغ على مواردها الخاصة فنقول هذا عمل الذي شك فيه المكلف بعد الفراغ منه وحكمه عدم الإعتناء بالشك، فكل منهما ليس مشروطاً باليأس من العثور على دليل إجتهادي في تلك المسألة، فيمكن للمجتهد أن يفتي على ضوئه إذا لم يكن له معارض، ومع هذه الخصوصية لا تكون هذه الأصول داخلة في القواعد الفقهية حتى إذا سلَّمنا إنّ إستفادة الحكم منها إنما هو من باب التطبيق وليس من باب الإستنباط.
فتبين مما تقدم:
1. أنَّ الأصول العملية ليست منحصرة في الأربعة، وقاعدة الطهارة منها وإن لم يتعرضوا لها في علم الأصول.
2. أنَّ الميزان في أصولية المسألة هو أن تقع في طريق إثبات الحكم الشرعي وجداناً أو تعبداً أو تنجيزاً وتعذيراً.
الوجه في تقديم الأمارات على الإستصحاب
تقدم في بحث سابق أنَّ هناك من إدعى أنَّ المجعول الإستصحاب هو الطريقية كالأمارات، وقد واجه هذا المبنى إشكالاً في تقديم الأمارات على الإستصحاب الذي لا خلاف فيه، فكيف يمكن تخريج هذا التقديم بحسب هذا المبنى؟
وأجيب عنه بالفارق الثالث بين الأمارات والأصول العملية وهو الفارق الإثباتي، وقد تقدم أنه غير صحيح، ولكن قد يستفاد منه في تبرير تقديم الأمارات على الإستصحاب على هذا المبنى، وذلك بأن يقال: إنَّ الأمارة مجعول فيها الطريقية فهي علم تعبداً، وبهذا الإعتبار ترفع الشك المأخوذ في دليل الإستصحاب، فيقدم دليل الأمارة على دليل الإستصحاب لأنه يرفع موضوعه دون العكس، لأنَّ دليل الأمارة لم يؤخذ في موضوعه الشك بالرغم من أنَّ المجعول فيهما هو الطريقية.
وذكرنا أنَّ هذا المطلب إنما يتم إذا كان الشك المأخوذ في دليل الإستصحاب يراد به الشك الأعم من عدم اليقين الوجداني وعدم اليقين التعبدي بالحالة السابقة فحينئذ يتحقق موضوع الإستصحاب ويكون المكلف شاكاً، وحينئذٍ يقال إنَّ الأمارة إذا كان مفادها خلاف الحالة السابقة فهي ترفع موضوع الإستصحاب لأنها علم تعبداً، فترفع عدم العلم التعبدي ويحصل اليقين التعبدي، وبعبارة أوضح كما أنَّ اليقين الوجداني بارتفاع الحالة السابقة يرفع موضوع الإستصحاب فكذا اليقين التعبدي يرفع موضوعه الإستصحاب، هذا إذا فسَّرنا الشك بالأعم، وأما إذا فسرناه بعد اليقين الوجداني فقط فكأنه قال إذا كان لديك شك وجداني فابنِ على الحالة السابقة، وعدم اليقين الوجداني لا يرتفع إلا باليقين الوجداني، وأما اليقين التعبدي فلا يكون رافعاً له لأنه في واقعه شك يجتمع مع الشك الوجداني وهذا يعني أنَّ الأمارة وإن كانت تورث اليقن التعبدي بارتفاع الحالة السابقة لكنها لا ترفع الشك الوجداني، فكيف تُقدم على الإستصحاب؟
وقد يقال إنَّ جعل الطريقية للأمارات يعني جعلها علماً تعبداً فترفع الشك حتى إذا كان وجدانياً ولكنها ترفعه تعبداً وهو معنى الحكومة، وهذا ما يُبرر تقديم الأمارات على الإستصحاب.
وهذا المطلب مرتبط بتفسير الطريقية وذلك بأن تُفسر بتتميم الكشف وإلغاء إحتمال الخلاف، أو قل تنزيل الأمارة منزلة العلم فحينئذٍ تكون الأمارة رافعة لموضوع الإستصحاب ولا يرد الإشكال المتقدم فإنَّ معنى التنزيل هو أنَّ ما يثبت للأمارة يثبت للعلم كتنزيل الطواف منزلة الصلاة الذي يعني أنّ الأحكام التي تثبت للصلاة تثبت للطواف، وكذا تنزيل الفقاع منزلة الخمر، وفي المقام ما يثبت للعلم الوجداني هو رفع الشك الوجداني فيثبت ذلك للأمارة ببركة التنزيل فتتقدم على دليل الإستصحاب.
وأما إذا فسَّرنا الطريقية بمعنى إعتبار الأمارة علماً في الحجية وفي إثبات مضمونها فلا تكون الأمارة مقدمة على دليل الإستصحاب لأنها لا ترفع الشك الوجداني لا حقيقة ولا تعبداً بحسب هذا المبنى، فإنَّ المجعول فيها هو الحجية لإثبات مؤداها لا غير.