44/06/15
الموضوع: الأصول العملية/ تمهيد / عدد الأصول العملية ووجه إنحصارها
كان الكلام في وجه عدم ذكر أصالة الطهارة في ضمن الأصول العملية من علم الأصول على الرغم من جريانها في الشبهات الحكمية كسائر الأصول الجارية في هذه الشبهات بلا فرق بينها وبين أصالة الطهارة التي تجري عند الشك في طهارة حيوان متولد من كلب وشاة كما مثلوا من دون أن يكون ملحقاً بأحدهما؟
الإتجاه الأول يقول إنها لم تذكر في علم الأصول لعدم اطرادها في جميع أبواب الفقه، وهو شرط في دخول المسألة في علم الأصول كالإستصحاب والبراءة والتخيير الجارية في جميع الأبواب بخلاف قاعدة الطهارة المختصة بباب الطهارة، وهذا الإتجاه هو مختار المحقق الخراساني قده.
ولوحظ عليه:
أولاً بالنقض بأنَّ بعض المسائل الأصولية غير مطردة في أبواب الفقه أيضاً ومع ذلك بحثت في علم الأصول من قبيل (النهي عن العبادة هل يقتضي الفساد) وهي مسألة مختصة بالعبادات، وكذا مسألة (النهي عن المعاملة هل يقتضي الصحة) كما هو المنقول عن أبي حنيفة، فما هو الفرق بين قاعدة الطهارة وبين هذه المسائل، بل حتى مثل إعتبار قصد الوجه وقصد التمييز وإعتبار قصد القربة فهي مسائل مختصة بالعبادات ولا تجري في معظم أبواب الفقه، فلا يصح ما الضابط الذي ذكره المحقق الخراساني.
وثانياً بالحل وهو أنَّ الشرط في كون المسألة أصولية هو وقوعها في طريق إستنباط الحكم الشرعي الكلي، ولا يعتبر جريانها في معظم أو جميع أبواب الفقه، فيقال مثلاً الوجوب دلَّ عليه خبر الثقة، وكل ما دلَّ عليه خبر الثقة فهو حجة فيستنبط الوجوب من ضم هذه الكبرى الأصولية الى الصغرى، فهذه مسألة أصولية من دون إشتراط جريانها في معظم أبواب الفقه.
ولكن يمكن التأمل في هاتين الملاحظتين والدفاع عن المحقق الخراساني:
أما النقض فما ذكر فيه فلا يختص بباب من أباب الفقه فإنَّ مسألة (النهي عن العبادة) مطردة في أبواب العبادات وهي تمثل نصف الفقه وليست كأصالة الطهارة المختصة ببابها، وهكذا مسألة (النهي عن المعاملة) فإنَّ المعاملات تمثل النصف الآخر للفقه وليست مختصة بباب من أبوابه حتى يقال أنَّها ليست واجدة لشرط دخولها في علم الأصول، فهذا النقض ليس واضحاً.
وأما الحل فما ذكر فيه - وهو كفاية وقوع المسألة في طريق الإستنباط - هو مجرد دعوى من دون إقامة برهان عليها، في قبال ما إدعاه المحقق الخراساني وهو إشتراط إطراد المسالة في أبواب الفقه، فهذه دعوى في مقابل دعوى.
بل لعل الإعتبار يساعد على ما ذكره المحقق الخراساني قده ولكن إطراد المسألة معظم أبواب الفقه لا في جميع الأبواب، فقد عبروا عن علم الأصول بأنه العلم بالقواعد المشتركة التي يُستنبط منها الحكم الشرعي، والمراد من (المشتركة) هي القواعد التي لا تختص بباب دون باب، وذلك باعتبار أنَّ علم الأصول يمثل النظريات بالنسبة الى علم الفقه، ويعتبر في النظرية التي يُفرد لها علم خاص أن تكون مشتركة ولا تختص باب معين، ولذا لا يحتاج الفقيه الى تكرار البحث فيها بل يُنقحها في علم الأصول ثم يأخذ النتيجة ويطبقها في علم الفقه، وأما إذا كانت المسألة خاصة فتبحث في بابها من الفقه، فهذا يُقرب ما ذكره المحقق الخراساني.
الإتجاه الثاني أنَّ المسألة إنما تدخل في علم الأصول إذا كانت محلاً للكلام والخلاف، وأما إذا كانت واضحة ومسلّمة عند الجميع فلا تدخل فيه، والأصول العملية الأربعة محل بحث وخلاف، وأما أصالة الطهارة فمتفق عليها.
وهذا القول هو المعروف عن السيد الخوئي قده وقد ذكره في عدة مواضع، ولكن الظاهر من مراجعة كلامه هو أنّ قاعدة الطهارة تدخل في علم الأصول لا العكس لأنَّ المناط كما تقدم هو وقوع المسألة في طريق إستنباط الحكم الشرعي وقاعدة الطهارة كذلك فتكون من مسائل علم الأصول، غاية الأمر أنَّ الأصحاب لم يتعرضوا لها لوضوحها وعدم الخلاف فيها فلا داعي لذكرها في هذا العلم، بل إدعى ذلك في مسائل أخرى كحجية الظواهر على الرغم من أننا نجد الفرق بين المسألتين واضحاً بالوجدان، فإنَّ الأصحاب تعرضوا لحجية الظواهر ولم يتعرضوا لقاعدة الطهارة.
وقد يلاحظ عليه:
أولاً: إنَّ أصالة الطهارة ليست بذلك الوضوح بحيث لا تحتاج الى الإستدلال عليها بل إستدلوا عليها في الفقه بالكتاب والسنة، هذا في أصل القاعدة، وأما إذا لاحظنا تفاصيل القاعدة فالمسألة تكون أوضح، فليست قاعدة الطهارة بديهية لا تحتاج الى الإستدلال.
وثانياً: أنَّ المسالة لا تكتسب أصوليتها من وقوع الخلاف فيها وإنما هي أصولية في مرحلة سابقة على الخلاف والوفاق، أي أنَّ الخلاف والوفاق يقع في المسألة الأصولية فلابد أن تكون المسألة واجدة للميزان الذي تدخل به في علم الأصول ثم يقع الخلاف أو الوفاق فيها، ومن هنا يأتي السؤال عن الضابط الذي تكون به المسألة أصولية.
والسيد الخوئي قده صرح بأن أصالة الطهارة مسألة أصولية وإنما لم يذكروها في علم للنكتة التي ذكرها، ومن هنا لا ترد الملاحظة الثانية كإشكال عليه، فالقاعدة إكتسبت أصوليتها من تحقق الميزان المعتبر في أصولية المسألة - وهو وقوعها في طريق إستنباط الحكم الشرعي - وإنما هو في مقام تبرير عدم ذكرها في علم الأصول، وذلك باعتبار عدم وقوع الخلاف فيها، فقد أفردوا علماً خاصاً للنظريات التي هي محل الخلاف والنزاع وطرحوا أفكارهم فيها وتصلوا الى نتائج معينة، وأما ما إتفقوا عليه فلا داعي لذكره، فلا معنى للإشكال عليه.
بل يمكن القول أنَّ ما ذكره قريب ويمكن الإلتزام به لإنطباق الضابط المذكور عليها، ولا فرق بينها وبين الإباحة الشرعية أو الإستصحاب فإن الجميع جارٍ في الشبهات الحكمية، وأما عدم ذكرهم لها في علم الأصول فيمكن أن يكون ما ذكره جواباً عن ذلك.
تعريف المحقق الخراساني لعلم الأصول:
أضاف المحقق الخراساني الى تعريف علم الأصول الذي ذكره المشهور قيداً فقال:
(صناعة يعرف بها القواعد الّتي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أو الّتي ينتهي إليها في مقام العمل)[1] ، وصرَّح بأنّ إضافة قيد (أو الّتي ينتهي إليها في مقام العمل) هو لإدخال الأصول العملية في علم الأصول، وكأنَّ الإقتصار على التعريف المشهور لا يُدخلها فيه وذلك لأنها لا تقع في طريق إستنباط الحكم الشرعي، والسؤال هنا لماذا لا تدخل الأصول العملية في التعريف المشهور، أو قل الميزان المتقدم للمسألة الأصولية لم لا يتحقق في الأصول العملية؟
وذكروا للجواب عنه أنَّ الأصول العملية على نحوين:
الأول: أصول عملية لا يكون مفادها حكماً شرعياً أصلاً كالأصول العقلية، فالبراءة العقلية مفادها التأمين، والاشتغال العقلي مفاده التنجيز، ولا يثبتان حكماً شرعياً فلا تدخل هذه الأصول في إستنباط الحكم الشرعي.
الثاني: أصول عملية مفادها حكم شرعي كما في سائر الأصول العملية الشرعية من قبيل أصالة الحل أو الإستصحاب بناءً على أنَّ مفاده هو جعل الحكم المماثل كما يظهر من بعض عبارات الكفاية في باب الإستصحاب، فالشارع يجعل حكماً مماثلاً للحكم الذي كان المكلف متيقناً منه ثم شك فيه بعد ذلك، وهذا أصل مفاده حكم شرعي، وكذا أصالة الحل التي مفادها الحلية، ويقول هذه الأصول لا يُستنبط منها حكم شرعي فلا تدخل في تعريف علم الأصول من دون إضافة القيد الأخير وذلك باعتبار أنها بنفسها حكم شرعي لأنها تقول (كل شيء هو لك حلال حتى تعرف أنه الحرام بعينه فتدعه من قبل نفسك..) فمفادها حكم شرعي وهو الحلية.
قد يقال إنَّ كون مفادها حكم شرعي لا ينافي إستنباط حكم شرعي منها باعتبار وقوعها كبرى في قياس الإستنباط فيقال: هذا مشكوك الحلية، وكل مشكوك الحلية حلال، فينتج هذا حلال، فيستنبط منها حلية هذا الشيء وهو حكم شرعي.
وأجاب صاحب الكفاية عنه: بأنَّ هذه المسألة وإن وقعت كبرى في قياس الإستنباط لكن هذا لا يعني إستنباط الحكم الشرعي منها وذلك بإعتبار أنَّ النتيجة هي نفس القاعدة وليست حكماً شرعياً مغايراً لها، أو قل إنَّ حكم المصداق المشكوك مستبطن في نفس القاعدة، فليس هناك إستنباط وإنما هو تطبيق للقاعدة على مصداق من مصاديقها ثم التوصل الى حلية هذا المصداق المشكوك، ومجرد تطبيق الكبرى على مصاديقها يدخلها في القواعد الفقهية، وأما القاعدة التي تقع في طريق الإستنباط فلابد أن لا يكون الحكم مستبطناً فيها.