الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/06/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ تمهيد/

الأصول العملية

تمهيد:

الأحكام الشرعية ليست كلها ضرورية الثبوت كما هو واضح، والثابت منها بالضرورة نادر جداً، وإذا اقتصرنا عليها لم تثبت الشريعة، فمعظم الأحكام تحتاج الى إثبات واستدلال، ولابد من ذكر الدليل على الحكم الشرعي عند الإلتزام به، بمعنى أنَّ الفقيه عندما يذكر حكماً ليس من الضروريات لابد أن يستدل على ثبوته، وإثبات هذه الأحكام النظرية يقع في مرحلتين:

الأولى: تأسيس القواعد والنظريات العامة التي بتطبيقها على مواردها يُستنبط الحكم الشرعي.

الثانية: تطبيق هذه القواعد العامة على مواردها.

والذي يتكفل بالمرحلة الأولى هو علم الأصول عادة، وفي علم الفقه يُمارس الفقيه التطبيق على الموارد المختلفة ثم يصل الى الحكم الشرعي، وهذه العملية تختص بالمجتهد ولا يقوم بها العامي وليس من شأنه تأسيس القواعد والنظريات العامة كما ليس من شأنه تطبيقها على مواردها.

وهذه النظريات تارة تستخدم لمعرفة الحكم الشرعي الإلهي سواء كان حكماً أولياً أو ثانوياً من قبيل البحث عن حجية خبر الواحد، وأخرى تستخدم لتحديد الوظيفة العملية للمكلف عند الشك في الحكم الشرعي الإلهي، أي تستخدم لتحديد الموقف العملي الذي يريده الشارع من المكلف في حالة الشك والتردد في الحكم الواقعي، وهذا عندما يفقد الفقيه الدليل على الحكم الشرعي فينتقل الى تحديد الموقف العملي الذي يريده الشارع من المكلف تجاه الواقعة التي يشك في حكمها الواقعي.

والنوع الأول الذي يستخدم للاستنباط الحكم الشرعي هي الأمارات واصطلح عليها بالأدلة الإجتهادية، ولسانها هو لسان تحديد الحكم الواقعي، ولا يلزم أن تصيب الواقع دائماً، والفقيه الذي يعتمد على هذه الأمارة - بعد أن تقوم الأدلة على حجيتها - يستنبط منها الحكم الشرعي الإلهي ويثبته بما هو حكم شرعي إلهي، ولكن في بعض الحالات قد لا يقوم الدليل الإجتهادي على تحديد الحكم الشرعي الواقعي فتبقى الواقعة مشكوك حكمها الواقعي، وهنا يأتي دور النوع الثاني من القواعد العامة التي تستخدم لتحديد الموقف العملي والتي يصطلح عليها بالأصول العملية أو الأدلة الفقاهتية، وهي القواعد التي تحدد الوظيفة العملية للمكلف عند الشك في الحكم الواقعي، أي في صورتي عدم العلم بالحكم الواقعي وعدم قيام الدليل المعتبر عليه، كما إذا شك في حكم لحم الأرنب وليس هناك ما يحدد له الحكم الشرعي الواقعي لا من العلم ولا من العلمي فيبقى شاكاً في الحكم الواقعي، وهنا يأتي دور الأصول العملية لتحديد الوظائف العملية للمكلف الشاك من دون أن يكون لها نظر الى تحديد الحكم الواقعي وإنما دورها تحديد وظيفة المكلف الشاك في مقام العمل، فالإحتياط في الشبهة التحريمية يقول للمكلف يجب عليك التوقف وعدم الإقدام، من دون أن يحدد له حكم لحم الأرنب، والبراءة تقول أنَّ الموقف العملي في الشبهة التحريمية هو إطلاق العنان ومن دون تحديد الحكم الشرعي أيضاً، ولذا لا تكون الأصول العملية ناظرة الى الواقع وإنما هي محددات للوظائف العملية في الشبهات الحكمية.

الفرق بين الحكم الواقعي والحكم والظاهري

المراد بالحكم الواقعي هو الحكم الثابت للشيء بعنوانه الأولي، وليس الثبوت في الواقع مأخوذاً فيه، وإنما المأخوذ فيه هو ثبوته للشيء بعنوانه الأولي، من قبيل (الخمر حرام) فالحرمة ثابتة للخمر بما هو خمر، وكذا في مثل (الصلاة واجبة) و (القنوت مستحب)، فهذه أحكام واقعية بقطع النظر عن الدليل الدال عليها سواءً كان قطعياً أم ظنياً معتبراً.

وفي قبال الحكم الواقعي الحكم الثابت للشيء بعنوانه الثانوي أي الشك في حكم الشيء الواقعي الأولي، فلحم الأرنب المشكوك حكمه الواقعي حكمه الظاهري هو البراءة أو الإحتياط، فهذه أحكام ظاهرية تثبت للشيء بعنوان أنه مشكوك حكمه الأولي، ومن هنا يتبين أنَّ المجعول في الأصول العملية هي أحكام ظاهرية تثبت للشيء بعنوانه الثانوي، ومن دون فرق بين أن تكون هذه الأحكام إلزامية كالإحتياط واستصحاب التكليف أو ترخيصية كالبراءة واستصحاب عدم التكليف فهذه كلها أحكام ظاهرية.

ولاحظ الفقهاء أنَّ المجعول في باب الأمارات هو أحكام ظاهرية أيضاً - بقطع النظر عن مفاد ومؤدى الأمارة الناظر الى الواقع والذي يُثبت الحكم للشيء بعنوان أنه حكمه الواقعي - وهو الحجية أو الحكم المماثل على مسلك آخر، بمعنى أنَّ الأمارة إذا أخبرت بحرمة شيء فالشارع يجعل حرمة مماثلة لمؤدى الأمارة، وهذه الحرمة هي حكم ظاهري مجعول في ظرف الشك، والحجية حكم ظاهري أيضاً لأنها مجعولة في ظرف الشك في أنَّ ما أخبرت عنه الأمارة هل هو واقع أم لا، وحتى المنجزية والمعذرية هي أحكام ظاهرية تجعل في حال الشك، ومن هنا طرحوا السؤال عن الفرق الحقيقي بين الأمارات وبين الأصول العملية مع أنَّ المجعول في كل منهما هي أحكام ظاهرية ثابتة للشيء بعنوان الشك؟

وفي مقام التفريق بين الأمارات والأصول العملية ذكرت عدة آراء:

الرأي الأول: ما له إشارات في كلام الشيخ الإنصاري قده والتزمه المحقق النائيني قده وإستدل عليه، وهو أنَّ الفرق بينهما يتمثل في سنخ المجعول، فيدعي أنَّ المجعول في باب الأمارات هو الطريقية والعلمية والذي يُعبر بمسلك جعل الطريقية والعلمية، بمعنى تتميم الشارع لكشف الأمارة تعبداً فيجعل لها العلمية وينزلها منزلة العلم في جانب الكشف عن الواقع، بينما المجعول في باب الأصول العملية هو الإلزام بالجري العملي، أو تنزيل الأصل العملي منزلة العلم في جانب الجري العملي لا في جانب الكشف عن الواقع كما هو الحال في الأمارات، بمعنى العمل على وفق الأصل العملي كالعمل بما يتطلبه العلم، فالمجعول في باب الأمارات هو الطريقية والعلمية وتتميم الكشف بينما المجعول في باب الأصول العملية هو الجري العملي فقط أو تنزيل الأصل منزلة العلم في الجري العملي.

وهذا يقتضي الرجوع الى الأدلة الدالة على الأمارات والأصول فإن كان المجعول فيها هو الطريقية والعلمية فالمجعول أمارة، وإن كان المجعول هو الجري العملي فالمجعول هو الأصل العملي.

لاحظ المحققون على هذا الرأي بأنَّ الدافع الحقيقي لاختياره في مقام التفريق بين الأصول والأمارات هو تبرير قضية واضحة ومُسلّمة بل يدعى أنها مركوزة في أذهان العقلاء وهي أنَّ لوازم الأمارات ومثبتاتها حجة بينما لوازم الأصول العملية ومثبتاتها ليست بحجة، فالأمارات تكون حجة في لوازمها لأنَّ المجعول فيها هو العلمية والطريقية وهذا العلم وإن كان علماً تعبداً لكنه منزل منزلة العلم الوجداني، والعلم بالشيء وجداناً علم بلوازمه كذلك ولا يمكن التفكيك بينهما، فإذا قال الشارع إنَّ الأمارة علم وجداني فيترتب عليها كل ما يترتب على العلم الوجداني، فكما يثبت بالعلم الوجداني لوازم الشيء المعلوم كذلك يثبت بالأمارة لوازمها، ومن هنا يمكن تبرير تلك القضية.

بينما المجعول في باب الأصول هو الجري العملي فقط فلا تكون لوازمه حجة لأنَّ الشارع لم ينزل الأصل منزلة العلم بلحاظ كشفه عن الواقع وإنما نزله منزلة العلم بلحاظ الجري العملي، وهذا لا يعني أنه لابد أن يأمر بالجري العملي على طبق لازم الأصل، ولا ملازمة بينهما، ومثاله المعروف إستصحاب حياة زيد، ولازم بقاؤه حياً هو نبات لحيته، فإذا أمر الشارع بالجري العملي على طبق الإستصحاب أي البناء على حياة زيد كما لو كان المكلف عالماً ببقائه حياً فلا يلزم من ذلك أمره بالجري العملي على طبق اللازم وهو نبات لحيته، ولذا لا تكون مثبتات الأصول العملية حجة.

ومن هنا فرَّع المحقق النائيني على ما إختاره أنَّ الأمارة حجة في ومثبتاتها ولوازمها بينما لا تكون الأصول العملية حجة في مثبتاتها ولوازمها.

الرأي الثاني: هو دعوى أنَّ موضوع الأصل أخذ فيه قيد الشك ثبوتاً بخلاف الأمارة حيث لم يؤخذ فيها قيد الشك، فكل دليل أخذ في موضوعه الشك ثبوتاً فهو أصل عملي، وكل دليل لم يؤخذ في موضوعه الشك فهو أمارة.