44/06/08
الموضوع: الظن/ الخاتمة مبحث الظن / موارد الإعراض الإجتهادي / البحث الإثباتي
البحث الإثباتي:
في البحث الإثباتي من الصعوبة بمكان وضع ضابط لمعرفة منشأ إعراض المشهور، نعم قد تقوم قرائن في بعض الحالات لتعيين منشأ الإعراض فيتعين الأخذ بها والعمل بما يقتضيه البحث الثبوتي المتقدم من كون الإعراض موهناً أو غير موهن، ولكنها تختص بموردها ولا تشكل ضابطة عامة يمكن تطبيقها في غير ذلك المورد، وبناءً عليه إن قامت القرائن على تشخيص منشأ الإعراض فنلتزم بذلك، وإن لم تقم القرائن على ذلك وتردد منشأ الإعراض بين المناشئ السابقة - ولعله هو الحالة الغالبة - فحيث أنَّ بعض هذه المناشئ توجب وهن الخبر والمنع من العمل به وبعضها لا يكون كذلك فهذا يعني أننا نحتمل أن يكون الإعراض موجباً لوهن الخبر ونحتمل أن لا يكون موجباً لذلك، فما هو المقرر في مقام العمل؟
وهنا يقال أنَّ حكم صورة التردد في منشأ الإعراض هو السقوط عن الإعتبار، أي الموهنية، كما إذا أحرزنا أن منشأ الإعراض هو أحد المناشئ التي توجب السقوط عن الإعتبار، وذلك بدعوى عدم شمول أدلة الحجية لمثل هذا الخبر، من دون فرق بين أن يكون دليل الحجية هو السيرة أو الدليل اللفظي من الآيات والروايات، ولا أقل من التشكيك في شمول دليل الحجية لمثل هذه الرواية، ومعه تسقط عن الإعتبار أيضاً، والسر فيه هو أنَّ سقوطها على الفرض الأول باعتبار أنَّ الأصل في الخبر هو عدم الحجية وبحسب هذا الفرض لا تكون أدلة الحجية شاملة لها، وأما على الفرض الثاني فبإعتبار أنّ حجية الرواية تتوقف على إحراز شمول دليل الحجية لها والشك في الشمول الأدلة لها يساوق عدم الحجية.
ولكنَّ عدم شمول أدلة الحجية لهذه الرواية أو التشكيك في الشمول بحاجة الى إثبات، والسر فيه هو أنَّ عمدة أدلة الحجية هي السيرة العقلائية وسيرة المتشرعة بالمعنى الأعم، وأما الأدلة اللفظية فهي ناظرة الى السيرة بالإمضاء والإرشاد ولا تستبطن أموراً أكثر مما تثبته السيرة، ولذا تتحدد بحدودها، وإذا لم تكن الأدلة اللفظية تأسيسية فلا يمكن الإستفادة من إطلاقها للتعدي الى الموارد التي لم تثبت فيها السيرة، وبناءً عليه يقال: إنَّ السيرة من الأدلة اللُبية ومقتضى القاعدة فيها هو الإقتصار على القدر المتيقن، وهو غير المورد المشكوك، بمعنى أننا لا نحتمل شمول الدليل الُلبي للمورد المشكوك دون غيره، وأما العكس - وهو شمول الدليل الُلبي لغير المورد المشكوك - فهو محتمل، وهذا يعني أنَّ غير المورد المشكوك يُشكل القدر المتيقن من الدليل، فالدليل يشمله على كل حال سواءً شمل المورد المشكوك أم لم يشمله، هذا هو الميزان في تحديد القدر المتيقن، وهو هنا الرواية التي لم يُعرض عنها المشهور، أو الرواية التي أعرض عنها المشهور وكان منشأ إعراضه أمراً إجتهادياً، وأما الرواية التي أعرض عنها المشهور وتردد منشأ الإعراض بين أمور بعضها يوجب الوهن وبعضها لا يوجبه فهي خارجة عن القدر المتيقن من السيرة، فيُقتصر في السيرة على القدر المتيقن، وهذا يعني عدم وضوح شمول دليل الحجية للرواية في محل الكلام.
نعم قد يدعى أنَّ دليل الحجية شامل للرواية التي أعرض عنها المشهور في صورة التردد في منشأ الإعراض، وإنما لا يكون شاملاً للرواية التي أعرض عنها المشهور وكان منشأ الإعراض واضحاً عندنا وهو من المناشئ التي توجب وهن الرواية وسقوطها عن الإعتبار وأما ما عداه فدليل الحجية شامل له، وذلك بدعوى قيام سيرة العقلاء على العمل بالرواية حتى في صورة التردد في منشأ الإعراض.
ولكن هذه الدعوى لا تخلو من مجازفة فإنَّ هذه القضية ليست محل إبتلاء العقلاء، بل ليست محل إبتلاء المتشرعة لندرة الإبتلاء به، وعلى تقدير الندرة لو فرض عمل بعض العقلاء بهذه الرواية فهذا لا يشكل سيرة كاشفة عن الدليل الشرعي، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى قد يُترقى ويقال إننا نستوضح عدم شمول دليل الحجية للرواية التي أعرض عنها المشهور في صورة التردد وذلك بإعتبار أنَّ هذه الرواية تدخل في مسألة قيام الإمارة مع وجود أمارة معاكسة لها تدل على خلافها، لأنَّ إعراض المشهور يُشكل أمارة على الخلاف، فإن كانت الرواية كاشفة عن الواقع بدرجة معينة كان الإعراض كاشفاً عن الخلل فيها، وهذه أمارة قد تمنع من شمول أدلة الحجية لهذه الرواية، أي يدعى توقف العقلاء عن العمل بأمارة في قبالها أمارة معاكسة لها ويدعى بأنَّ هذا هو المشاهد في سيرة العقلاء، فلو فرضنا أنَّ الثقة أخبر بموت زيد في حادث سير فالعقلاء يُرتبون الأثر على خبره ويعملون بما يقتضيه، ولكن إذا فُرض قيام أمارة معاكسة في قبالها بأنَّ أخبر ثقة آخر بعدم موته وإنما نقل للعلاج، فالعقلاء يتوقفون عن العمل بالخبر الأول وإن كان أمارة معتبرة بنظرهم، وما ذلك إلا لأنهم يرون عدم إعتباره، فدليل الحجية - وهو السيرة - قاصر عن شمول الأمارة التي في قبالها أمارة معاكسة، ويدعى أنَّ المقام داخل في هذا الباب لأنَّ الإعراض يُشكل أمارة معاكسة للرواية وإن لم نعلم منشأ هذا الإعراض ولكن إحتمال نشوء الإعراض من منشأ يوجب وهن الرواية موجود، فكأننا نحرز عدم شمول دليل الحجية للرواية التي أعرض المشهور عنها في صورة التردد في منشأ الإعراض.
وأما ومع عدم إحراز ذلك فيكفي فيه البيان الأول الذي يقول أنَّ الشك في شمول دليل الحجية لهذه الرواية كافٍ في الإلتزام بسقوطها عن الإعتبار لأنَّ الإلتزام بالحجية موقوف على إحراز شمول دليل الحجية لها.
ويمكن صياغة ما تقدم ببيان آخر ينتج سقوط الرواية عن الإعتبار في صورة التردد بأن يقال:
إنَّ عدم شمول دليل الحجية لمثل لهذه الرواية هو بإعتبار عدم تحقق ملاك الحجية فيها وذلك باعتبار أن الملاك في حجية الأخبار هو إما الوثوق بالصدور وإما وثاقة الرواي وعلى كِلا التقديرين تسقط الرواية عن الإعتبار لعدم تحقق ملاك الحجية، أما إذا كان الملاك هو الوثوق بالصدور فيقال إنَّ هذه الرواية لا وثوق بصدورها بعد وجود قرينة نوعية منافية ومعاكسة لها فتسقط عن الإعتبار.
وأما إذا كان الملاك هو وثاقة الراوي فقد يقال إنَّ المفروض في المقام هو وثاقة جميع الرواة فلا بد من الإلتزام بالحجية وإن أعرض عنها المشهور.
ولكن قد تقدم أنَّ كون الملاك هو وثاقة الراوي لا يعني أنَّ مأخوذة على نحو الموضوعية الصرفة بنحو تدور الحجية مدارها وجوداً وعدماً، والصحيح أنها مأخوذة على نحو الطريقية، أي بما لها من الكاشفية النوعية عن الواقع بدرجة معينة، وبهذا الإعتبار جُعلت لها الحجية، فكل من الوثاقة والكشف عن الواقع بدرجة معينة معتبر فيها ، ولا إشكال في أنَّ هذه الكاشفية تختل عندما تكون هناك قرينة معاكسة لها، وهذا ما ندركه بالوجدان ففرق بين الكشف في رواية لم يُعرض عنها المشهور وبين الكشف في رواية أعرض عنها المشهور ولا شك في أنَّ درجة الكاشفية في الأولى تكون أكبر من الثانية، وهذا يعني أنَّ ملاك الحجية غير متحقق في الرواية الثانية، بل غير متحقق في كل أمارة تكون في قبالها أمارة معاكسة مقبولة عند العقلاء نوعاً.
هذا ما يمكن أن يقال في البحث الإثباتي، وبه نختم البحث عن الظن، ثم يقع الكلام في الأصول العملية.