44/06/07
الموضوع: الظن/ الخاتمة مبحث الظن / إعراض المشهور عن الرواية/ موارد الإعراض الإجتهادي
موارد الإعراض الإجتهادي:
المراد هنا تشخيص الموارد التي لا تدخل في محل النزاع، وهي:
المورد الأول: أن يكون الإعراض ناشئاً من وجود معارض للرواية التي أعرض عنها المشهور - وهو المنشأ الثاني -، والظاهر أنَّ هذا الإعراض يكون إجتهادياً من دون فرق بين أن يكون ناشئاً من تقديم المعارض على الرواية لأحد المرجحات التي يراها المشهور كالأحدثية أو الشهرة أو لموافقة المعارض للإحتياط، وذلك لأنه مبني على إعمال الرأي في موجبات الترجيح، فالتقديم بالأحدثية مثلاً مسألة خلافية وفيها إعمال للنظر فإذا حصل الإعراض لهذا الوجه فسيكون إجتهادياً، وبين أن يكون الإعراض ناشئاً من الحكم بساقط المتعارضين فهذه قضية إجتهادية أيضاً لأن الحكم بسقوط دليلين متعارضين موقوف على عدم إمكان الجمع بينهما جمعاً عرفياً وإلا إرتفع التعارض بينهما ولا موجب لتساقطهما، ويُعمل بكل منهما طبقاً لهذا الجمع، فمثلاً إذا كان الدليل (ثمن العذرة سحت) له معارض وهو (لا بأس ببيع العذرة) وفرضنا أن مقتضى الجمع العرفي هو حمل الأول على عذرة الإنسان وحمل الثاني على عذرة غير الإنسان فنعمل بكل منهما ولا موجب حينئذ لتساقطهما، فالوصول الى مرحلة التساقط مبني على عدم إمكان الجمع بين الدليلين جمعاً عرفياً مقبولاً وهذا يبتني على إعمال نظر فتكون المسألة إجتهادية.
المورد الثاني: أن يكون الإعراض ناشئاً من الخلل السندي - المنشأ الأول - بشرط أن يكون ناشئاً من مسألة إجتهادية كما لو فرضنا أن المشهور يرى إعتبار العادلة في الراوي أو أن يكون إمامياً إثنا عشرياً وكان أحد الرواة في السند واقفياً أو فطحياً فضلاً عن غيرنا فيترك المشهور العمل بالرواية لهذا الوجه، وهذا الإعراض لخلل في السند إلا أنه مبني على قضية إجتهادية مختلف فيها فيكون إعراضاً إجتهادياً.
نعم إذا فرضنا أنَّ الإعراض كان مرتبطاً بتشخيص ما فرغنا عن كونه شرطاً في قبول الرواية كما إذا فرغنا من اشتراط العدالة في الراوي ثم اختلفنا مع المشهور في تشخيص هذا الراوي هل هو عادل أم لا، أو فرغنا من إعتبار الوثاقة واختلفنا مع المشهور في تشخيص الثقة، فهذا إعراض من قبل المشهور لخلل في السند إلا أنه ليس مرتبطاً بقضية إجتهادية وإنما هو ناشئ قضية حسية أو قريبة من الحس وهي وصول معلومات الى المشهور مفادها أنَّ هذا الراوي ليس ثقة بينما وصلت إلينا معلومات تفيد وثاقته، وهذا خلاف ولكن ليس في قضية إجتهادية، فعلى فرض حصول إعراض من هذا القبيل لا يكون إعراضاً إجتهادياً ويكون داخلاً في محل الكلام.
نعم قد يكون الإختلاف في التشخيص راجعاً الى مسألة إجتهادية أيضاً - كما في الغلو - فلو ضعف المشهور راوياً لأنه يراه مغالياً وهذا مانع من الوثاقة عندهم، وكان نظرنا أنَّ الغلو لا يمنع من الوثاقة فقد يكون الراوي ثقةً للنص على وثاقته وإن كان مغالياً، وهذا راجع الى مسألة إجتهادية خلافية ترتبط بالغلو وتأثيره على الوثاقة، ومعه لا يكون داخلاً في محل الكلام.
المورد الثالث: الإعراض الناشئ من حمل الرواية على التقية - وهو المنشأ الثالث - فالمشهور بها لا يعمل بالرواية لأنه يرى أنها لم تصدر بداعي بيان الحكم الواقعي، والظاهر أنَّ هذا الإعراض ليس إجتهادياً وذلك بإعتبار أنَّ المفروض في محل الكلام هو وصول الرواية إلينا كما وصلت الى المشهور، وهذا يعني أنَّ الرواية في نفسها خالية عن أي قرينة تدل على التقية وإلا لوافقناهم على عدم العمل بها، ومن هنا نسأل عن سبب إتفاق المشهور على حملها على التقية، ويتعين أن نفسر إتفاقهم هذا بأنهم عثروا على قرينة دالة على الحمل على التقية إما قرينة لُبية متصلة غير مصرح بها، وإما قرينة لفظية منفصلة لم تصل إلينا، ولا بد أن تكون دلالة هذه القرينة دلالة واضحة وذلك باعتبار إتفاق المشهور على حمل الرواية على التقية، وأما إذا كانت الدلالة غير واضحة لوجدنا الخلاف بين المشهور، فلابد من التفصيل بين الدلالة الواضحة وغير الواضحة للقرينة، وعلى الأول يكون الإعراض داخلاً في محل الكلام ويكون مانعاً من العمل بهذه الرواية، أي يكون موهناً للرواية وموجباً لسقوطها عن الإعتبار.
المورد الرابع: وهو أن يكون الإعراض ناشئاً من الخلل في الدلالة - وهو المنشأ الرابع - فقد تقدم أنه يمنع من العمل بالرواية ويكون موهناً لها إما بإعتبار أنه يكون إعراضاً إجتهادياً كما إذا اختلفنا مع المشهور في ظهور رواية بأن نراها ظاهرة في الوجوب والمشهور لا يرى ذلك فلا يُثبت الوجوب إستناداً إليها، وهذا خلاف اجتهادي لا يكون مانعاً من العمل بالرواية إلا في بعض الحالات كما إذا كنا ممن يحسن الظن بالمشهور فقد يؤثر فهمهم ويجعلنا نتردد في فهمنا، وهذا يساوق عدم الإستظهار فلا نعمل بالرواية، وهذه حالات ليست نادرة، وأما في غير ذلك فلا موجب لأن يكون إعراض المشهور مانعاً من العمل بالرواية.
هذا إذا كان الإختلاف ناشئاً من الإختلاف في الفهم وإما إذا فرضنا وضوح الدلالة على الوجوب بنحو لا يختلف فيها إثنان ومع ذلك لم يستند إليها المشهور في إثبات الوجوب، فهنا يأتي ما تقدم من إحتمال إطلاع المشهور على قرينة صارفة أوجبت صرف الظهور عن أن يكون مراداً جدياً للمتكلم، فأعرض عن الرواية ذلك، ولابد أن تكون دلالة هذه القرينة واضحة بشهادة إتفاق المشهور على عدم العمل بها وحينئذٍ يكون هذا الإعراض مانعاً من العمل بهذه الرواية، وأما إذا لم تكن دلالة القرينة بهذه المثابة من الوضوح فتكون مسألة إجتهادية ولا ينبغي أن تكون مانعة من العمل بتلك الرواية.
وتبين من هذا البحث أنَّ المهم شرطان:
الأول: إحراز إطلاع المشهور على الرواية وإلا لم يتحقق مفهوم الإعراض.
الثاني: أن لا يكون الإعراض إجتهادياً.
هذا كله في البحث الثبوتي حول مناشئ الإعراض المحتملة ثبوتاً، وبيان حكم الإعراض الناشئ من كل منشأ منها.
وأما البحث الإثباتي فالواصل إلينا هو إعراض المشهور عن الرواية وأما منشأ هذا الإعراض فكيف يمكن تحديده، وهل هناك ضابط لتحديده؟
والمهم في المقام هو ماذا نعمل إذا إنتهينا الى التردد بعد صعوبة تحديد منشأ الإعراض؟
بمعنى أنَّ هناك إعراض من قبل المشهور وفي موارد غير قليلة ولا نعلم ما هو المنشأ فيها، فهل يؤثر هذا الإعراض في وهن الرواية أم لا؟