44/05/26
الموضوع: الظن/ الخاتمة مبحث الظن / إعراض المشهور عن الرواية/ مناشئ الإعراض وأحكامها
المنشأ الرابع: الخلل في الدلالة
أن يكون إعراض المشهور عن الرواية لخلل في دلالتها والمفروض أننا لا نجد ذلك فيها، والمنسوب الى المشهور أنَّ ذلك لا يوجب وهن الرواية، بل قيل: أطبق عليه الكل، كما عن السيد الخوئي، لكن الظاهر من جماعة عدم وجود هذا الإطباق، بل هناك مخالفين ولو من المتأخرين، فالمنقول عن المحقق الهمداني أنَّ إعراض المشهور عن الدلالة يوجب وهن الرواية وسقوطها عن الإعتبار، وكلام المحقق النائيني صريح في ذلك، وكذا كلام السيد الحكيم في المستمسك، وهذه المسألة غير محررة في كلمات القدماء فمن يدعي الإطباق على عدم الموهنية لا بد أن يقصد المتأخرين الذين حرروا هذه المسألة، وقد تبين أنَّ بينهم خلاف ولا يوجد إطباق على الموهنية.
ويمكن تصور هذا المنشأ بنحوين: وذلك بإعتبار أنَّ دلالة الرواية تارة تكون واضحة جداً بحيث لا يمكن فرض الإختلاف فيها، ومع ذلك نجد المشهور ترك العمل بها.
وأخرى لا تكون كذلك، فيقع الإختلاف بيننا وبين المشهور في تشخيص الدلالة، فلا يراها المشهور دالة على الوجوب مثلاً ونحن نراها ظاهرة فيه، وحينئذٍ نقول:
أما في الفرض الأول فإعراض المشهور عن العمل بالرواية من جهة الدلالة لا يمكن تفسيره عادة إلا بأنَّه عثر على قرينة صارفة عن هذا الظهور منعته عن العمل بالرواية، وهذه القرينة لابد أن تكون قرينة لُبية متصلة بالكلام - وليس من شأنها أن تنقل إلينا - أو تكون قرينة لفظية منفصلة، وأما إفتراض القرينة اللفظية المتصلة فخلف المفروض، فإن المفروض هو وصول الرواية إلينا مجردة عن القرينة وإلا لما إنعقد لها ظهور في الوجوب، وفي هذه الحالة إذا أوجب إعراضهم عن الرواية حصول الإطمئنان بوجود قرينة على الخلاف بنحو لا يكون ذلك الإعراض إجتهادياً بل يكون قريباً من الحس - والدليل عليه إتفاقهم على عدم العمل مع إختلاف مشاربهم ومسالكهم فلا أن تكون دلالة هذه القرينة أشبه بالدلالة الحسية - فقد يوجب ذلك للفقيه المتأخر الإطمئنان بوجود قرينة على الخلاف، ولا إشكال حينئذٍ في سقوط الدلالة عن الإعتبار، لأنَّ الإطمئنان بوجود قرينة صارفة يساوق الإطمئنان بأنَّ هذا الظهور ليس مراداً للمتكلم فلا يكون مشمولاً لأدلة حجية الظهور.
وأما مع عدم حصول الإطمئنان بوجود قرينة صارفة بل يظن وجودها فهل هذا الظن يجعلها غير مشمولة لأدلة الحجية؟
الجواب: لا بد من التفريق هنا بين الظن الشخصي وبين الظن النوعي، فإذا كان الحاصل ظناً شخصياً للفقيه فالظاهر أنه لا يؤثر في شمول أدلة الحجية للخبر، لما تقدم من أدلة الحجية - سنداً ودلالة - ليست مشروطة بالظن الشخصي بالوفاق ولا بعدم الظن الشخصي بالخلاف.
وأما إذا كان الحاصل هو الظن النوعي فهو يوجب زوال الكاشفية النوعية عن الرواية والتي هي الملاك في الحجية كما تقدم، بمعنى أنَّ الكاشفية لا تبقى بنفس الدرجة بقطع النظر عن القرينة المعاكسة، فلا يكون هذا الخبر مستجمعاً لشرائط الحجية ويمكن أن يقال بسقوطه عن الإعتبار.
ولكن كلماتهم خالية من التفريق بين الظن النوعي والظن الشخصي، بمعنى أنهم يفصلون بين الإطمئنان وبين الظن، فيقولون إن حصل الإطمئنان بوجود قرينة صارفة فتسقط الرواية عن الإعتبار، وإن حصل الظن فلا، من دون تفصيل في الظن بين الشخصي والنوعي.
ونحن نقول: كلامهم صحيح إذا كان الظن شخصياً وأما إذا كان ظناً نوعياً فالمسألة قابلة للتأمل.
هذا كله في الفرض الأول.
وأما الفرض الثاني فالدلالة فيه ليست واضحة ويمكن أن نختلف معه في فهم الرواية، وفي هذا الفرض يأتي الكلام المتقدم بأننا إن كنا ممن يُحسن الظن بالمشهور وبفهمهم وبتشخيصهم - لاعتبارات كثيرة منها قربهم من عصر النص وسعة اطلاعهم على الروايات، وقربهم من أهل اللغة، وهم أبعد عن ما أوجب إعوجاج السليقة في فهم النصوص من الأمور المستحدثة وزيادة التعَّمل في فهمها - فمن الممكن أن يوجب فهم المشهور تردد الفقيه المتأخر في فهمه واستظهاره خصوصاً إذا إنفرد به، ومعه يزول الإستظهار ولا تشمل أدلة حجية الظهور هذه الرواية.
وأما مع عدم حُسن الظن بالمشهور - كما يحصل لدى البعض - فلا موجب لسقوط الحجية عن هذه الرواية وذلك لعدم التردد في الظاهر منها ومعه تكون مشمولة لأدلة الحجية.
ومن هنا يمكن حمل كلام القائلين بالموهنية على الفرض الأول - وهو كون الدلالة واضحة عندنا وعند المشهور - سواءً حصل لنا الإطمئنان أو حصل الظن النوعي بوجود قرينة على الخلاف، كما يمكن حمل كلام القائلين بعدم الموهنية على الفرض الثاني وهو الإختلاف في الفهم.
هذه هي أهم المناشئ الثبوتية لإعراض المشهور عن الرواية.
وقد يقال بوجود منشأ آخر وهو إنَّ إعراض قسم من المشهور لا لأجل المناشئ السابقة وإنما لإعراض غيرهم من المشهور، فعلى تقدير تحققه فتارة يكون هذا القسم من المقلدين للباقين وأخرى يكون إعراضهم مع اطلاعهم على منشأ الإعراض وموافقتهم لباقي المشهور في إعراضهم.
فعلى فرض التقليد الصرف - وهو مستبعد في حقهم - فهو لا يعني إلا قلة عدد المشهور بإخراج المقلدين منهم، وهذا وإن كان يؤثر على سرعة الوصول للنتيجة إلا أنه لا يؤثر أصل الإعراض.
وأما في الفرض الثاني فلا يكون ذلك مؤثراً، بمعنى أنهم يدخلون في حساب الإحتمالات مع الآخرين ويبقى المشهور بتمامه معرض عن الرواية لأحد المناشئ السابقة، وعليه ليس هناك منشأ آخر يضاف الى المناشئ السابقة.
موارد الإعراض الإجتهادي
الظاهر أنَّ الإعراض يكون إجتهادياً في موارد لا بد من استعراضها وإخراجها عن محل الكلام:
المورد الأول: الإعراض الناشئ من المنشأ الثاني وهو وجود معارض، وهو عادة ما يكون إجتهادياً، وعليه يكون كل إعراض للمشهور عن الرواية بسبب وجود معارض خارجاً عن محل الكلام، بمعنى أنه لا إشكال في أنه لا يكون موجباً للموهنية.