44/05/25
الموضوع: الظن/ الخاتمة مبحث الظن / إعراض المشهور عن الرواية/ مناشئ الإعراض وأحكامها
كان الكلام المنشأ الثاني من مناشئ إعراض مشهور القدماء عن الرواية وهو وجود معارض لها وذلك بأن لا يعمل بالرواية التي نراها تامة لوجود معارض لها، والمفروض في محل الكلام عدم وصول المعارض إلينا أو وصوله ولكننا لا نراه معارضاً، فإن كان المناط في الحجية هو الوثوق فقد يقال بسقوط الرواية عن الإعتبار لعدم حصول الوثوق بالحجية بعد إعتقاد المشهور وجود معارض لها.
ويمكن أن يقال إنَّ إعراض المشهور من هذه الجهة إلا يوجب بالنسبة إلينا إلا إحتمال وجود المعارض على تقدير عدم الوصول أو إحتمال معارضة الموجود على تقدير الوصول، فهل يمنع هذا الإحتمال من العمل بالرواية؟
الظاهر أنَّ الموقف يبتني على أنّ كون الرواية حجة هل يتوقف على إحراز عدم المعارض أو يكفي فيه عدم إحراز المعارض، والشك في المعارض يكون مانعاً من العمل بالرواية على الأول لعدم إحراز عدم المعارض، ولا يكون مانعاً من العمل بالرواية على الثاني لأنَّ عدم إحراز المعارض متحقق في محل الكلام بحسب الفرض.
والصحيح هو أنَّ العمل بالرواية مشروط بإحراز عدم المعارض، والمقصود به إحراز عدم المعارض فيما وصل إلينا من الأخبار لا إحراز عدمه واقعاً، نعم بعد عدم العثور على المعارض يبقى إحتمال وجود المعارض واقعاً إلا أنه لا يمنع من العمل بالرواية، وهذا ما جرت عليه سيرة الفقهاء إذ لا يكتفون في العمل بالخبر بمجرد وصوله إليهم والذي يعني عدم إحراز المعارض بل لا بد من الفحص عن المعارض في مظان وجوده، ومع عدم العثور عليه لا يتوقفون عن العمل بالخبر، وهذه السيرة جارية في جميع الظواهر.
وقد يعترض عليه: بأنّ هذا الكلام إنما يصح في الحالات الاعتيادية في الشك في وجود المعارض، وأما إذا كان الشك في وجود المعارض مقروناً بالعلم بأنَّ مشهور القدماء يعتقدون وجود المعارض بحيث منعهم من العمل بالرواية فلا، ومحل الكلام من الثاني فلا يكون ما ذُكر صحيحاً وذلك باعتبار أنّ الفحص فيما وصل إلينا لا يوجب إحراز عدم وجود المعارض مع اعتقاد المشهور وجوده.
وجوابه: إنَّ ما ذُكر في الإعتراض لا يوجب إلا إحتمال وجود المعارض - وهو ما يعتقد المشهور أنه معارض - أو معارضية الموجود، فنحرز وجود ما يعتقد المشهور أنه معارض، وهو لا يزيد عن إحتمال وجود المعارض فيأتي فيه الكلام المتقدم وهو أنَّ هذا الإحتمال لا يمنع من العمل بالخبر لأنَّ حجية الخبر ليست مشروطة بإحراز عدم المعارض واقعاً وإنما مشروطة بعدم إحراز المعارض فيما وصل إلينا وهذا حاصل بالفحص، وهكذا إذا فرض وصول ما يعتقد المشهور أنه معارض فهو لا يمنع من العمل بالرواية لأنه لا يوجب إلا إحتمال وجود معارض في الواقع، ولا أثر له.
مضافاً الى أنه في الصورة الثانية يكون إعراض المشهور اجتهادياً فيختل بذلك أحد الشروط المعتبرة في كون الإعراض موجباً للموهنية، ومثله لا يكون موهناً ولا يمنع من العمل بالرواية، هذا كله إذا قلنا أنَّ المناط في الحجية هو الوثوق بالصدور.
وأما إذا قلنا أنَّ المناط في الحجية هو وثاقة الراوي فالظاهر أنَّ النتيجة واحدة وهي عدم سقوط الرواية عن الإعتبار لمجرد إحتمال وجود المعارض، بل لعل الأمر هنا أوضح لأنَّ المناط مفروض الوجود، وهذا كله يعني أنَّ الكاشفية النوعية للخبر والتي هي الملاك الحجية فيه لا تختل بمجرد إحتمال المعارض.
ويضاف إليه إنَّ الإعراض الناشئ من وجود خبر يعتقد مشهور القدماء أنه معارض للرواية يكون إعراضاً إجتهادياً وقد مرَّ أنه يعتبر في الإعراض أن لا يكون كذلك.
وبعبارة أخرى: إنَّ التعارض يعني التنافي والتكاذب بين مفادي الدليلين على نحو لا يمكن الجمع بينهما، وتحديد ذلك يحتاج الى إعمال نظر واجتهاد وليست هي قضية حسية، فلا يكون مثل هذا الإعراض الناشئ عن الإجتهاد موجباً لموهنية الرواية.
المنشأ الثالث: الإعراض من جهة إحتمال التقية في الرواية، أي أنها لم تصدر بداعي بيان الحكم الواقعي وإنما صدرت بداعي بيان الحكم التقيتي، وهنا أيضاً لا بد أن نفترض أننا لا نرى التقية في هذه الرواية، وإلا كان خارجاً عن محل الكلام.
وقد يقال إنَّ أصالة الجد جارية في المقام فتحمل الرواية على أنها صدرت بداعي بيان الحكم الواقعي، وإفتراض أنها صدرت بداعي بيان الحكم التقيتي خلاف الظاهر، فنحرز بهذا الأصل صدور الرواية بداعي بيان الحكم الواقعي ولا نتوقف عن العمل بها لمجرد إعتقاد المشهور التقية فيها.
ويلاحظ عليه: أنَّ أصالة الجد - وأمثالها من الأصول العقلائية - مبنية على أساس الكشف النوعي عن الواقع، أي أنَّ إحتمال التعبد فيها منفي، وحينئذٍ يقال: إنَّ إعتقاد المشهور التقية في الرواية - مع كونهم الأقرب الى عصر النص والأكثر فهماً لظروف صدور الرواية والأكثر دراية برواتها - إن لم يوجب حصول الإطمئنان لنا فلا أقل من عدم حصول الكشف النوعي في هذه الرواية عن الواقع، وهذا يعني إختلال ملاك حجية هذه الأصول العقلائية، وبعبارة أخرى نمنع من جريان أصالة الجد في مثل محل الكلام.
نعم إذا شككنا في التقية مع عدم إقترانه بالعلم الموجود من قِبل مشهور القدماء فتجري أصالة الجد، وأما مع قيام قرينة معاكسة بهذه الأهمية فهذا يوجب زوال الظن والكشف النوعي على الأقل والذي هو ملاك حجية هذه الأصول اللفظية العقلائية.