الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/05/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ الخاتمة / تأثير الظن الذي لم يقم دليل على إعتباره- جابرية السند

الدليل الرابع: دعوى إنعقاد سيرة من قبل العقلاء على العمل بخبر غير الثقة إذا إحتفَّ بما يوجب الوثوق بصدوره من القرائن الخارجية فإنها وإن لم تكن حجة في حد نفسها لكنها توجب حجية الخبر عند العقلاء بحيث لا يرون العمل به تفريطاً.

بل يمكن دعوى إستقرار عمل الأصحاب وتسالمهم على العمل بأخبار الثقات وغير الثقات إذا إحتفت بقرائن توجب الوثوق بصدورها، وأهم هذه القرائن هو عمل الأصحاب، وهو محل الكلام.

ويلاحظ عليه بما تقدم في الدليل الأول وهو أنَّ الوثوق هنا هل المقصود به الوثوق الشخصي أم الوثوق النوعي، فإن كان المقصود هو الوثوق الشخصي فالكبرى صحيحة لأنَّه حجة، لكنه لا يعني أنّ الخبر يكون حجة وإنما الحجية للوثوق، وإنما الكلام في تحقق الصغرى، ونحن لم ننكر تحققها في الجملة وإنما أنكرنا ذلك بالجملة، لاختلافها من مورد الى آخر، مع إرتباطها بشخص الفقيه ومدى وثوقه بالعلماء الذين يعملون بهذا الخبر الضعيف.

وإن كان المقصود هو الوثوق النوعي فالمناقشة تكون في الكبرى والكبرى معاً، أما الصغرى فباعتبار عدم وضوح حصول الوثوق عند نوع الناس من عمل المشهور بالخبر الضعيف، وأما الكبرى فبعدم الدليل على حجية الوثوق النوعي إذا لم يحصل من وثاقة الراوي كما ذكر السيد الخوئي قده ، مع ملاحظة أنّ الأدلة لم تدل على حجية هذا الوثوق النوعي مباشرة وإنما دلت على إعتبار الوثاقة في الراوي، وبالتحليل نقول أنَّ الوثاقة حجة باعتبار كاشفها عن الواقع وهو كشف نوعي فبهذا الإعتبار يقال إنَّ الوثوق النوعي الحاصل نتيجة وثاقة الراوي معتبر، وأما ما عداه فلا دليل على إعتباره، فهذا الدليل لا يزيد على الدليل الأول.

هذه عمدة الأدلة التي يُستدل بها على الجابرية، وقد تبين مما تقدم أنَّ الوجوه المتقدمة مخدوشة إما صغروياً وإما صغروياً وكبروياً، نعم إذا حصل الوثوق الشخصي من عمل المشهور بالخبر الضعيف فيمكن التعويل عليه، ولكنه لا يختص بعمل المشهور..

بل قد يذكر دليل على عدم الجابرية وحاصله:

أنَّ الأدلة الدالة على حجية خبر الواحد لا تشمل مثل هذا الخبر الضعيف في حد نفسه لكنه إحتف بقرينة خارجية توجب حصول الوثوق بصدوره، وقد لا تقل كاشفية هذه القرينة عن كاشفية خبر الثقة، ولكن على الرغم من ذلك لا تكون موجبة لحجية هذا الخبر، والسر فيه هو أنَّ أدلة حجية الخبر ليست شاملة لمثل هذا الخبر الضعيف، أما الأدلة اللفظية من الآيات والروايات - إذا تمت - فهي تُقيد الخبر الحجة بما إذا كان المخبِر به عادلاً وثقة ومأموناً في نقله، ونحوها من العبارات التي لا يبعد أنها تشير الى معنى واحد وهو التحرز من الكذب، والمفروض في محل الكلام أنَّ هذا الخبر فاقد للشروط المعتبرة بحسب الأدلة.

وأما الأدلة اللُبية كالسيرة فلا إطلاق لها حتى يُتمسك به لإثبات الحجية في مثل هذا الخبر، ويقتصر ففيها على القدر المتيقن، وهو الخبر الذي يرويه الثقة، وبعبارة أخرى القدر المتيقن من السيرة هو الخبر الذي تكون له كاشفية ذاتية عن الواقع، وهي موجودة في خبر الثقة ولا توجد في خبر غيره، وأما الخبر الفاقد لهذه الدرجة من الكشف فإنما يراد ضم الكاشفية له من القرائن المحتفة به، ومنها عمل المشهور، فهو خارج عن القدر المتيقن من السيرة، فالأدلة التي يُستدل بها على حجية خبر الواحد لا تشمل الخبر في محل الكلام.

وقد يقال: يمكن إثبات الحجية لهذا الخبر بعد فرض عدم شمول الأدلة له بتنقيح المناط وذلك بدعوى أنَّ المناط في حجية خبر الثقة هو كاشفيته عن الواقع بدرجة معينة، وهي موجودة في الخبر في محل الكلام، وقد قيل ذلك في موارد أخرى، فقيل مثلاً أنَّ الملاك في حجية الخبر هو إفادته للظن بدرجة معينة وأنَّ الشهرة يحصل منها الظن بأكثر من هذه الدرجة فينبغي أن تكون حجة، فيُتعدى من الموارد التي ثبتت حجيتها بالدليل الى غيرها بتنقيح المناط.

وجوابه: أنَّ هذا التعدي ممنوع لإمكان إفتراض إنتفاء الحاجة التي دعت المشرع الى جعل الحجية لأخبار الآحاد بعد جعل الحجية لأخبار الثقات، وذلك باعتبار أنَّ عدم هذا الجعل يوقع المكلفين في الحرج فلرفعه يجعل الشارع الحجية لأمارة ما وقد إختار خبر الثقة وجعل الحجية له، فأشبعت هذه الحاجة بذلك، فكيف يمكن إفتراض عدم إقتصار الحجية على خبر الثقة!

فالصحيح عدم الجابرية، نعم إذا حصل الوثوق الشخصي بصدور هذا الخبر باعتبار عمل المشهور به فيمكن الإستناد إليه.

البحث الثاني عمل المشهور بالرواية هل يجبر الضعف الدلالي فيها أو لا؟

كما لو فرضنا أنَّ الرواية المعتبرة سنداً ليست ظاهرة في معنى معين - كالوجوب مثلا - لكن المشهور إستظهر ذلك منها، فيكون ذلك بنظرنا عملٌ بالظهور الضعيف ولا تكون مشمولة لدليل حجية الظهور، فهل يكون عمل المشهور بها جابراً لضعف هذه الدلالة بنحو يجعلها داخلة في دليل حجية الظهور؟

الصحيح هنا عدم الجابرية أيضاً وذلك باعتبار أنَّ الأدلة الدالة على حجية الدلالة - وعمدتها السيرة - موضوعها الظهور فإذا كانت ظاهرة في معنى كانت حجة على العبد وحجة له، ومن الواضح أنَّ إستظهار المشهور من هذه الرواية لا يجعلها ظاهرة عندنا فلا تشمله أدلة حجة الظهور، واستظهارهم لا يوجب إنقلاب الشيء عما هو عليه.

نعم قد يكون عمل المشهور واستظهارهم لمعنى لا نستظهره نحن موجباً للتردد في فهمنا للرواية، وذلك باعتبار أنَّ الكلام عن مشهور القدماء وهم أقرب الى عصر النص، وأقرب الى أصول اللغة منا، وأقدر على فهم ظواهر الأدلة ولو باعتبار القرائن التي تحتف بالكلام، فهذا يوجب التشكيك فيما نستظهره من الرواية، فإن إستقر هذا التردد كان ذلك من مواضع الاحتياط الوجوبي ويكون مانعاً للفقيه من الفتوى بما إستظهره، هذا مع ملاحظة إختلاف ذلك بإختلاف الأشخاص ومدى عنايتهم برأي المشهور وحسن الظن بهم.