44/05/17
الموضوع: الظن/ الخاتمة / تأثير الظن الذي لم يقم دليل على إعتباره/ جابرية السند
كان الكلام في أنّ عمل المشهور بالرواية الضعيفة سنداً هل يجبر ضعفها السندي أم لا، قلنا إنه قد يُستدل على الجابرية بأمور:
الأول ما نقلناه عن صاحب الكفاية، وذكرنا أنَّ السيد الخوئي قده ناقش فيه بأنّ بالوثوق في كلامه إن كان المقصود منه الوثوق الشخصي فالكبرى مسلَّمة ولكن الكلام في الصغرى، وإن كان المقصود هو الوثوق النوعي فالكلام في الكبرى والصغرى معاً، أما الصغرى فبأنَّ عمل المشهور برواية لا يوجب الإطمئنان لدى نوع الناس، وأما الكبرى فبعدم الدليل على حجية الوثوق النوعي الحاصل من غير جهة وثاقة المخبر، بل ترقى وقال لا دليل على حجية اليقين النوعي، فحجية الخبر تثبت إما بالوثوق النوعي الحاصل من وثاقة المخبر وإما بالوثوق والاطمئنان الشخصي، وأما مع إنتفاء هذين الأمرين كما في محل الكلام فلا دليل على الحجية.
هذا كله مع إفتراض إحراز إستناد المشهور الى هذه الرواية الضعيفة في مقام الفتوى، وأما مجرد فتوى المشهور مع مطابقتها للخبر الضعيف فغير كافٍ في تحقق الإستناد، فقد يكون استنادهم الى شيء آخر.
ثم يقول إنَّ إحراز إستناد المشهور أمر صعب جداً، وذلك باعتبار أنَّ ما وصل إلينا عن القدماء هو فتاوى خالية من الإستدلال فلا طريق الى معرفة مستندهم.
ولكن هذا الكلام غير مقبول على إطلاقه، فكأنه يقول أنَّ الجابر للضعف السندي هو إستناد القدماء الى الخبر ومعرفته متعسرة بالنسبة إلينا فالجابر غير متحقق، والمتحقق - وهو إحراز إستناد المتأخرين - غير جابر.
والملاحظة عليه: هي أنه يمكن معرفة إستناد المتقدمين الى الخبر الضعيف في بعض الموارد، فمن ذلك:
أولاً: من كتب القدماء الكافي وهو يضع عنواناً لكل باب، والظاهر منه أنه يمثل فتواه فإذا ذكر روايات في ذلك الباب كان ذلك واضحا في إنه إستند إليها، فإذا كانت أحداها ضعيفة أمكن إحراز استناده الى الخبر الضعيف.
ثانياً: لو سلَّمنا أنَّ كتب القدماء هي فتاوى خالية من الإستدلال والاستناد ووصلت إلينا فإن فرضنا أنه لم يكن هناك قاعدة من القواعد العامة أو أصل موافق للفتوى بل قد تكون على خلاف القواعد والأصول، وليس هناك دليل واضح عليها فيما وصل إلينا من الأخبار إلا هذه الرواية الضعيفة سنداً، والمفروض أنَّ المشهور لا يفتي بدون دليل فيحصل من مجموع ذلك الإطمئنان بأنهم إستندوا في هذه الفتوى الى هذه الرواية، نعم لو كانت الفتوى موافقة لقاعدة من القواعد العامة أو كانت موافقة لأصل من الأصول كان من المحتمل إستنادهم الى ذلك في هذه الفتوى، ومن هنا يمكن أن يقال إنّ فتوى مشهور القدماء إذا كانت مطابقة للخبر ضعيف وكانت على خلاف القواعد والأصول ولم يكن هناك دليل واضح عليها فيما وصل إلينا فيحصل الإطمئنان بأنَّ مستندهم فيها هو هذا الخبر الضعيف، فيحرز الإستناد بهذا الطريق.
ثالثاً: قد يعلم إستناد المشهور في بعض الموارد من خلال ألفاظ وتعابير نفس الفتوى وذلك إذا كانت مطابقة لألفاظ الخبر الضعيف، لما عُرف من تقيُّدهم في الفتوى بالتعبير بمتون الروايات، فيكون ذلك مساعداً على حصول القناعة في إستنادهم الى الخبر الضعيف.
والحاصل: إنَّ معرفة إستناد المشهور الى الخبر الضعيف ليست متعذرة ولا متعسرة ويمكن تحصيلها بما ذكرنا وغيره، مع ملاحظة ما تقدم من أنَّ الظاهر من كلام المحقق الخراساني قده هو إرادة الوثوق الشخصي، فإن حصل ذلك من فتوى المشهور فلا إشكال في الجابرية.
الدليل الثاني: ما نقله السيد الخوئي قده عن استاذه المحقق النائيني قده، وحاصله:
أنَّ الخبر الضعيف المنجبر بعمل المشهور حجة بمقتضى منطوق آية النبأ ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ لأنَّ مفاده هو أنَّ خبر الفاسق حجة مع التبيُّن، وعمل المشهور بالخبر الضعيف نوع من تَبيُّن صدق المخبر في خبره، ومنطوق الآية يدل على حجية الخبر مع تبيَّن صدقه، ومعه يكون الخبر الضعيف حجة.
ويقول السيد الخوئي قده نحن وافقنا الأستاذ في الدورة السابقة ولكن عدلنا عنه بعد ذلك، وذكر وجه العدول وهو:
إنَّ التبيُّن عبارة عن استيضاح وإستكشاف صدق الخبر، وهو تارة يكون بالوجدان كما لو حصل العلم أو الإطمئنان بصدقه، وأخرى يكون بالتعبد كما إذا دلَّ دليل معتبر على صدقه، وحيث أنَّ فتوى المشهور المستندة الى هذا الخبر ليس تبيُّناً وجدانياً بلا إشكال كما أنها ليست حجة فلا تكون تبيناً تعبدياً، ومع إنتفاء كِلا الأمرين لا يمكن القول إننا تبيَّنا صدق الخبر، وانضمام عمل المشهور الذي ليس بحجة الى الخبر الضعيف غير الحجة لا ينتج الحجية، وهو من باب إنضمام العدم الى العدم.
وهذا النقل مذكور في أجود التقريرات الجزء الثالث من الطبعة الجديدة ص190، وقد ذكره في مقام إثبات أنَّ آية النبأ تدل على حجية تمام أقسام الخبر الصحيح والحسن والموثق والخبر الضعيف المنجبر بعمل المشهور، وذكر أنَّ التبيُّن في الآية يحصل بمعرفة صدق الرواية كما في الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة في الإستناد، فنتبين صدقه بذلك فيكون حجة.
لكنه ذكر في موضع آخر في الجزء الثاني من الطبعة القديمة في ص 160:
"وأما الشهرة الاستنادية بين القدماء - مع كون الرواية ضعيفة في نفسها - فتكشف بحسب العادة عن اطلاعهم على قرائن فيها أوجبت اطمئنانهم بصدورها حتى صارت مدركاً لفتواهم، فلا محالة تكون الرواية بذلك داخلة فيما يوثق بصدوره، فيشملها دليل الحجية"[1]
أي أنّ الدليل الدال على حجية الخبر الموثوق بصدوره يشمل هذه الرواية، وهذا يعني أنَّ وثوق القدماء بصدور الرواية أوجب لنا الوثوق والاطمئنان بالصدور.
أقول: هذا الكلام هو نفس كلام المحقق الخراساني قده في الدليل الأول، وهو أنَّ عمل المشهور واستنادهم الى الرواية يوجب لنا الوثوق بالصدور فيكون حجة.
ويلاحظ على اعتراض السيد الخوئي قده في النقل الأول بأنَّ المحقق النائيني قده يقول إنَّ التبيّن الوجداني حاصل لأنه يدعى أنَّ عمل المشهور يوجب الوثوق الشخصي بصدور الرواية، ومنطوق الآية يقول إذا تبينتَ صدق الخبر وجداناً فهو حجة، فإنكار التبيَّن في المقام هو أول الكلام.
الدليل الثالث: ما قيل من أنَّ عمل المشهور بالخبر الضعيف هو توثيق عملي للمُخبر، فيكون الخبر خبر ثقة، ويكون مشمولاً لأدلة حجية خبر الثقة.
وجوابه واضح وهو أنَّ عمل المشهور كأي عمل أمرٌ مجمل لا يعرف الوجه في وقوعه، فيمكن أن يكون من جهة توثيق المخبر كما قيل، ويمكن أن يكون لقيام القرائن على صحته ومطابقته للواقع من قبيل وجوده في الأصول المهمة والقديمة وتداوله بين الأصحاب وعمل الفقهاء عليه ونحو ذلك مما يمكن تصحيح عملهم به، ومع عدم إنحصار توجيه عملهم بالخبر الضعيف بتوثيق المخبر لا يكون شهادة عملية منهم على وثاقته.
مضافاً الى أنَّ هذا التوثيق لو سلَّمناه فهو معارض بالتضعيف المفروض في محل الكلام.