44/05/11
الموضوع: الظن/ حجية مطلق الظن/ مناقشة مقدمات دليل الإنسداد.
كان الكلام في المقدمة الثالثة من مقدمات دليل الإنسداد حيث قالوا فيها أنَّ الإحتياط التام غير واجب أو غير جائز، وقلنا لا إشكال في عدم وجوبه مع عدم القدرة عليه، وكذا الحال إذا إستلزم الإخلال بالنظام لإنَّ الشارع بذلك بلا إشكال فيلتزم بعدم جوازه، وإنما الكلام فيما إذا كان مستلزماً للعسر والحرج فهل يحكم بعدم جوبه تحكيماً لأدلة نفي العسر والحرج بأن يقال أنها ترفع موضوع وجوب الإحتياط وتكون حاكمة على ما دلَّ على لزوم الإحتياط أو أنَّ هذه الأدلة لا تشمل وجوب الإحتياط باعتباره حكماً عقلياً وإنما ترفع الأحكام الشرعية المستلزمة للضرر أو الحرج ؟
تقدم أنَّ فيه خلاف، ذهب الشيخ الأنصاري قده الى الأول حيث فسَّر النفي فيها بأنه متوجه الى الحكم المستلزم للعسر والحرج، فهو منفي ولا وجود له في الشريعة، وتطبيقه في محل الكلام بأن يقال: إنَّ وجوب الإحتياط وإن كان عقلياً ولا تنفيه هذه الأدلة إلا أنَّها تنفي منشأ حكم العقل بوجوب الإحتياط وهو الأحكام التكليفية المعلومة بالإجمال، وبارتفاعها يرتفع حكم العقل لإرتفاع موضوعه، فيمكن القول أنَّ الإحتياط التام إذا كان مستلزماً للعسر والحرج فوجوبه مرتفع.
وذهب صاحب الكفاية قده الى أنَّ المنفي هو الفعل الحرجي وأنَّ الغرض منه هو نفي حكمه بلسان نفي الموضوع، وهو من قبيل (لا ربا بين الوالد وولده)، ولكن الفعل نفسه ليس حرجياً وبإمكان المكلف إمتثاله لو علم بحكمه، وإنما الحرج ينشأ من وجوب الإحتياط، فما يلزم منه الحرج ليس حكما شرعياً حتى يرتفع بأدلة نفي العسر والحرج وما هو حكم شرعي يمكن أن تشمله الأدلة ليس حرجياً لوضوح تمكُّن المكلف من إمتثاله لو علم به، فأدلة نفي العسر والحرج لا ترفع وجوب الإحتياط، فلا بد من الإلتزام بوجوب الإحتياط وإن إستلزم العسر والحرج.
والصحيح من الرأيين هو ما ذكرناه في قاعدة لا ضرر، فما تُفسَّر به قاعدة لا ضرر تُفسَّر به قاعدة لا حرج، والمختار هناك هو ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري قده من أنَّ المنفي هو الحكم الحرجي والضرري، كما هو المستظهر من قوله تعالى ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَیۡكُمۡ فِی ٱلدِّینِ مِنۡ حَرَجࣲۚ﴾ الحج: 78، فإنَّ المنفي هو الحرج في الدين بمعنى لا حكم حرجي في الشريعة، وليست ناظرة الى رفع الفعل لغرض نفي حكمه كما قال صاحب الكفاية، وبناءً عليه الإحتياط التام إذا إستلزم العسر والحرج فلا يكون واجباً.
والحاصل: الإحتياط التام لا يكون واجباً في جميع الحالات، أي سواءً كان غير مقدور للمكلف أو كان مخلاً بالنظام أو كان مستلزماً للعسر والحرج، فيمكن القول أنّ المقدمة الثالثة بالنسبة الى عدم وجوب الإحتياط تامة.
لكن نقول إنَّ التبعيض في الإحتياط بالمقدار الذي لا يلزم منه إختلال النظام ولا الوقوع في العسر والحرج لا دليل على عدم وجوبه، فلمَ لا نلتزم به بعد أنَّ حكم العقل بلزوم التبعيض ؟
وعيه لابد أن يُلتزم بالتبعيض في الإحتياط على تقدير تمامية مقدمات الإنسداد، نعم غاية الإشكال فيه هو ما إدعي من الإجماع على أنّ الشارع لا يرضى بالإمتثال الإجمالي، والإحتياط - سواءً كان تاماً أو ناقصاً - يستلزم الإمتثال الإجمالي.
والمناقشة فيه واضحة وهي أنَّ هذا الإجماع غير متحقق في المقام لأنَّ المسألة مستحدثة ولم تُحرر في كلمات القدماء حتى نستكشف إجماعهم على ذلك، وعلى تقدير تحصيله فهو إجماع مدركي لأنه ناشئ من إعتبار قصد الوجه والتمييز، وذلك باعتبار أنَّ الإمتثال الإجمالي يُلغي قصد الوجه والتمييز، ومع كونه مدركياً لا يكون ناهضاً لإثبات المدعى.
وبناءً عليه فمقدمات الإنسداد لو تمت فهي تنتج التبعيض في الإحتياط، وأين هذا من حجية الظن شرعاً ! فيجب على المكلف أن يأتي بالتكاليف المظنونة أولاً للمقدمة الخامسة القائلة بقبح ترجيح المرجوح على الراجح، فإن إستلزم الإحتياط العسر والحرج فيما زاد عليها أو إستلزم إختلال النظام تُرك، وإلا لزم الإحتياط في التكاليف المشكوكة أيضاً حتى يلزم أحد المحذورين فيُترك، وهذه النتيجة هي غير إستكشاف حجية الظن شرعاً من أدلة الإنسداد.
ومن هنا نقول إنَّ قيام الأدلة على حجية أخبار الثقات يعني إنفتاح باب العلمي، وبذلك ترتفع أهم مقدمة من مقدمات دليل الإنسداد، فتقوم الحجة على جملة كثيرة من الأحكام الشرعية، وبذلك ينحل العلم الإجمالي الثالث - في دائرة الأخبار - الى علم تفصيلي بثبوت هذه التكاليف في ضمن أخبار الثقات المعتبرة والى شك بدوي في الباقي، ولا مانع من جريان الأصول فيما عدا ما دلت عليه أخبار الثقات.
والنتيجة: دليل الإنسداد غير تام لانفتاح باب العلمي وبه ينحل العلمي الإجمالي، كما لا يوجد شيء يوجب الإحتياط بلحاظه حتى يقال إن لم يمكن الإحتياط التام فنتنزل الى التبعيض في الإحتياط.
وإن إدُعي إنسداد باب العلمي فنقول هذه المقدمات لا تنتج حجية الظن المطلق وإنما تنتج التبعيض في الإحتياط وهو غير المطلوب إذ يقتضي العمل بالتكاليف المشكوكة أيضاً إذا لم يلزم منها محذور.
هذا هو عمدة الحديث في دليل الإنسداد، وتبقى أمور مهمة تذكر في ذيله يأتي الحديث عنها.