الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/05/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية مطلق الظن/ مناقشة مقدمات دليل الإنسداد.

تبين مما تقدم أنّ حكم العقل بحجية الظن ينحل الى أحكام عقلية منها قبح مؤاخذة الشارع لمن يعمل بالتكاليف المظنونة في حال الإنسداد، ومنها عدم جواز العمل بالتكاليف المشكوكة والموهومة وترك التكاليف المظنونة، فهل يمكن إستكشاف حكم الشارع بحجية الظن من باب الملازمة ؟

منع من ذلك المحقق الخراساني وذلك لإستحالة ثبوت حكم شرعي في مورد حكم العقل، أما الحكم الأول - وهو قبح مؤاخذة العامل بالتكاليف المظنونة - فلأنّ المؤاخذة من أفعال الشارع نفسه والأحكام الشرعية موردها فعل العبد، فقبح المؤاخذة عقلاً لا يلازم حرمة المؤاخذة شرعاً.

وأما الثاني - وهو عدم جواز العمل بالتكاليف الموهومة والمشكوكة وترك التكاليف المظنونة - فلا يلازم حكم الشارع بالحرمة، وذلك لأنَّ حكم الشارع إنما هو لغرض جعل الداعي عند العبد للتحرك نحو الإمتثال، والداعي موجود في مورد حكم العقل، فيكون الجعل الشرعي من باب تحصيل الحاصل.

وعليه لا يمكن إستكشاف الحكم الشرعي بحجية الظن بناءً على الملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع.

ثم وقع الكلام في تمامية مقدمات دليل الإنسداد، والصحيح أنها غير تامة، إما كُلاً أو بعضاً:

أما المقدمة الأولى وهي العلم الإجمالي بوجود تكاليف شرعية، وأطرافه جميع الشبهات، ففيها:

لا إشكال في وجود هذا العلم الإجمالي ولا يمكن إنكاره، غاية الأمر أنَّ أطرافه لما كانت كثيرة جداً فالمكلف لا يتمكن من موافقته القطعية بمعنى أنه مضطر لترك العمل بهذا العلم في بعض الأطراف، فيترك الفعل في بعض الشبهات الوجوبية ويرتكب الفعل في بعض الشبهات التحريمية اضطراراً، ولكن هذا الإضطرار لا يرفع منجزية العلم الإجمالي، نعم يمكن أن يقال إنَّ هذا العلم منحل بالعلم الإجمالي المتوسط الذي دائرته جميع الأمارات والذي نعلم بوجود تكاليف واقعية في ضمنها، وهذا علم إجمالي أصغر من الأول، والمعلوم بالعلم الإجمالي الثاني لا يقل عن المعلوم بالعلم الإجمالي الأول، وهذا هو الميزان في الإنحلال، كما ينحل العلم الإجمالي الثاني بالعلم الإجمالي الأصغر منه والذي دائرته خصوص الأخبار - الذي نعلم أنَّ بعضها مطابق للواقع قطعاً - لأنَّ ميزان الإنحلال موجود فيه أيضاً فإن ما نعلمه من تكاليف في ضمن الأخبار لا يقل عن ما نعلمه من تكاليف في ضمن جميع الأمارات، وذلك لما تقدم من أنّ عزل مقدار المعلوم بالإجمال في دائرة الأخبار ثم ضم الباقي منها الى سائر الأمارات لا يولد علماً إجمالياً بوجود تكاليف فيها - مع مراعاة التفاصيل المتقدمة التي منها إستثناء ما كان موافقاً للأخبار، واستثناء الأمارات النافية للتكليف - ، ومع الإنحلال يجب الإحتياط في دائرة الأخبار، وهو يعني العمل بالأخبار مطلقاً لا العمل بخصوص مظنونة الصدور كما يُدعى.

كما أنَّ دعوى لزوم إختلال النظام أو لزوم العسر والحرج في العلم الإجمالي الصغير مردودة، بدليل إلتزام علمائنا الأخبارين - رضوان الله عليهم - بالعمل بجميع الأخبار لكونها قطعية الصدور بنظرهم ولم يلزم من ذلك إختلال النظام ولا الوقوع في العسر والحرج، فيجب العمل بجميع الأخبار، وهذا خلاف ما يريد قائل بالإنسداد إثباته وهو حجية الظن المطلق الذي يعني حجية الأخبار المظنونة الصدور.

وأما المقدمة الثانية التي يُدعى فيه إنسداد باب العلم والعلمي، أما دعوى إنسداد باب العلم فهي تامة فإنَّ الثابت من الأحكام بالقطع والضرورة قليل جداً، وأما دعوى إنسداد باب العلمي فغير تامة، وذلك لأنَّ الدليل عليها هو أحد أمرين:

الأول: دعوى أنَّ الأخبار الواصلة إلينا ليست حجة إما للشك في كبرى حجية خبر الثقة وإما للشك في صغرياتها.

الثاني: أن يقال إنَّ الأخبار وإن كانت حجة من حيث السند لكن ظهورها ليس حجة بالنسبة إلينا - على غرار ما قيل في ظواهر الكتاب - إما لأنَّ حجيتها مختصة بالمقصودين بالإفهام ولسنا منهم أو لغير ذلك ما ذكر في محله.

ويكفي القائل بالإنسداد إثبات إحدى الدعوتين، كما لابد للقائل بالانفتاح من دفع كلا الدعوتين، وهذا هو الصحيح إذ تقدم إثبات كبرى حجية خبر الثقة، كما ثبت تشخيص الصغرى في كثير من الموارد، كما ثبت حجية الظواهر بالنسبة إلينا، بل ثبت حجية ظواهر الكتاب إما لأنَّ الظواهر ليست مختصة بالمقصودين بالإفهام وإما بدعوى أننا مقصودين بالإفهام أيضاً، فباب العلمي مفتوح، فتبطل هذه المقدمة.

وأما المقدمة الثالثة المتضمنة لجملة من الأمور، والكلام يتركز هنا على دعوى عدم إمكان الإحتياط التام إما لأنه غير جائز أو غير واجب، فإذا فرضنا أنَّ هذا الإحتياط غير ممكن أصلاً فلا إشكال في عدم وجوبه لإستحالة التكليف بغير المقدور، وأما إذا إدعي إمكانه ولكنه مخل بالنظام فيكون قبيح عقلاً كما يكون غير جائز شرعاً.

وأما إذا إدعي أنه يستلزم العسر والحرج فهل يُلتزم بعدم وجوب الإحتياط التام لذلك أو لا ؟

وهذا الفرض الأخير محل خلاف بين الشيخ الأنصاري وبين المحقق الخراساني، فقد إلتزم الشيخ بعدم وجوب الإحتياط التام إذا إستلزم العسر والحرج لأدلة نفي العسر والحرج وذلك باعتبار أنَّ هذه الأدلة ترفع موضوع وجوب الإحتياط فتتقدم عليه لأنَّ المستفاد منها هو نفي الحكم الذي ينشأ منه العسر والحرج، وهذا على غرار (لا ضرر ولا ضرار) الذي فُهم منه أنَّ الحكم الذي يلزم منه الضرر منفي في الشريعة، وتطبيقه في محل الكلام بأن يقال:

إنَّ وجوب الإحتياط وإن كان من الأحكام العقلية ولا ترفعه أدلة نفي العسر والحرج لأنها ناظرة الى الأحكام الشرعية لكن هذا الحكم العقلي نشأ من بقاء الحكم الشرعي الواقعي، فالمرتفع بأدلة نفي العسر والحرج هو الحكم الشرعي فيرتفع ذبلك الحكم العقلي بإرتفاع موضوعه، وكأنه يقول إنَّ أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على أدلة وجوب الإحتياط العقلي ورافعة لموضوعها.

وخالفه المحقق الخراساني والتزم بوجوب الإحتياط وإن لزم منه العسر والحرج، لأنَّ أدلة نفي العسر والحرج لا تشمل الحكم العقلي، والمنفي بها ليس هو الحكم الذي ينشأ من الضرر وإنما هي تفني الفعل الضرري والحرجي لغرض نفي حكمه، وهو نظير (لا ربا بين الوالد وولده) النافي للحكم بلسان نفي الموضوع.

والسؤال هل الفعل الذي تعلق به الحكم الشرعي الواقعي حرجي وضرري أم لا؟

والجواب: الفعل ليس حرجياً في نفسه، لوضوح أنَّ الحرج إنما ينشأ من الإحتياط التام لا من تعلق الحكم بهذا الفعل، وبعبارة أخرى إنَّ ما ينشأ منه الحرج هو وجوب الإحتياط، وهو حكم عقلي لا تجري فيه هذه الأدلة، وما هو حكم شرعي يمكن أن تجري فيه هذه الأدلة ليس حرجياً، فلا تجري هذه الأدلة في محل الكلام ولا يمكن نفي وجوب الإحتياط بها، ولذا إلتزم بوجوب الإحتياط.