الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/05/08

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية مطلق الظن/ الوجه الثالث دليل الإنسداد.

كان الكلام في دليل الإنسداد وذكرنا الخلاف فيما ينتجه على تقدير تماميته بتمامية مقدماته، كما أنَّ هناك خلاف في مقدماته هل هي أربعة أم خمسة، وهل ما ينتجه هو إستكشاف حكم الشارع بحجة الظن مطلقاً أم هو حكم العقل بحجية الظن كما حكم بحجية القطع؟

ويظهر من المحقق الخراساني قده أنَّ العقل يستقل بحجية الظن، ويُعبر عنه بالحكومة.

وإعتُرض عليه بأنَّ العقل ليس من شأنه الحكم وإنما من شأنه الإدراك، لذا استبدل المعترض حكم العقل بناءً على الحكومة بإدراك العقل معذورية من يعمل بالظن على الإنسداد بمعنى أنه لا يستحق العقاب على تقدير المخالفة، بخلاف من يعمل بغير الظن بأن يترك التكاليف المظنونة ويعمل بالموهومة فالعقل يُدرك أنه ليس معذوراً ويستحق العقاب على تقدير المخالفة، والمعذروية هنا بمعنى كفاية الإمتثال الظني بنظر العقل.

والحاصل المقصود بالحكومة هنا ليس إستقلال العقل بالحكم بحجية الظن وإنما إدراكه المعذورية وعدمها بالنحو المتقدم.

ولكن الذي يظهر من عبارة الكفاية شيء آخر، قال:

"وهو مؤلف من مقدّمات يستقلّ العقل مع تحقّقها بكفاية الإطاعة الظنيّة حكومة أو كشفاً ... ولا يكاد يستقلّ بها - أي بالإطاعة الظنية - بدونها - أي بدون هذه المقدمات -."[1]

وهذه العبارة واضحة في أنَّ العقل يستقل بكفاية الإطاعة الظنية حكومة أو كشفاً فعلى كِلا التقديرين يكون دليل الإنسداد دليلاً عقلياً، وإنما الخلاف في أنه بعد فرض إنحصار الإمتثال بالظن لإنسداد باب العلم والعلمي وعدم جواز الرجوع الى الأصول وفتوى الغير على ما تقدم وعدم جواز تقديم الإمتثال الشكي أو الوهمي على الإمتثال الظني لقبح ترجيح المرجوح على الراجح هل يستكشف من ذلك جعل الشارع الحجية للظن أو أنَّ العقل يستقل بلزوم الإمتثال الظني للتكاليف المعلومة إجمالاً ؟

والمراد بالكشف هو جعل الشارع الحجية للظن تأسيساً وليس المراد إمضاؤه لما حكم به العقل، كما لا يُراد الحجية الشرعية الثابتة بملاك الملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع، وإنما الكلام في أنَّ مقدمات الإنسداد هل نستكشف منها أنَّ الشارع جعل الحجية للظن تأسيساً أو لا، ولهذا منع القائل بالحكومة من الجعل الشرعي التأسيسي وقال لا مانع من الجعل الشرعي الإرشادي.

ويحتمل - ولو إحتمالاً بعيداً - أنَّ هذا هو مراد المحقق الخراساني قده من قوله: (يستقلّ العقل مع تحقّقها بكفاية الإطاعة الظنيّة)، وقد إختار الحكومة في هذه المسالة.

فلا يرد عليه الإعتراض بأنَّ العقل ليس من شأنه الحكم وإنما له الإدراك، ولا يحتمل خفاء هذا المعنى عليه، وإنما يقصد أنَّ المكلف يخرج عن عهدة التكاليف المعلومة بالإجمال إذا عمل بالظن وترك العمل بالتكاليف الموهومة والمشكوكة، وهذا ما يُعبَّر عنه بالتبعيض في الإحتياط، وهذا ما يدركه العقل، فيمكن تفسير عبارته بذلك.

وذكر السيد الخوئي قده أنَّ الخلاف في إنتاج دليل الإنسداد ليس اعتباطياً وإنما نشأ من كيفية طرح المقدمة الثالثة، فتارة يقال فيها أنَّ الإحتياط التام غير ممكن للزوم إختلال النظام فلا يكون جائزاً، أو للزوم العسر والحرج فلا يكون واجباً.

وأخرى يقال أنَّ الشارع لا يرضى بالإحتياط التام، بل لا يرضى بإمتثال تكاليفه إمتثالاً إجمالياً بأن يأتي بالطرف المشكوك من دون علم بالتكليف فيه والذي يلزم منه إلغاء قصد الوجه وإلغاء التمييز، ويُفترض أنَّ الشارع يهتم بهما، فالإحتياط وإن كان حسناً على حال ولكنه في هذا الفرض لا يكون كذلك.

فإذا طُرحت المقدمة الثالثة بالنحو الأول فالنتيجة هي الحكومة أي التبعيض في الإحتياط بحكم العقل، وذلك بأن يحتاط المكلف بلحاظ التكاليف المعلومة بالعلم الإجمالي فإذا لزم منه إختلال النظام أو الوقوع في العسر والحرج فيرفع اليد عنه، وهو معنى التبعيض في الإحتياط.

وأما إذا طُرحت بالنحو الثاني فالشارع لا يرضى بالإحتياط لا مطلقاً ولا في دائرة التكاليف المظنونة، فلابد من إيجاد طريق آخر لإمتثال تكاليفه وهو الإعتماد على الظن، وبذلك نستكشف حجية الظن عند الشارع، ويكون إمتثال التكاليف إمتثالاً تفصيلياً بمعنى إمكان قصد الوجه وحصول التمييز.

 


[1] كفاية الأصول، الخراساني، ج2 ص357، ط. مؤسسة النشر الإسلامي.