44/05/05
الموضوع: الظن/ حجية مطلق الظن/ الوجه الثاني والثالث.
كان الكلام في الدليل الأول الذي إستُدل به على حجية الظن المطلق وهو يتألف من صغرى وكبرى:
الصغرى: الظن بالتكليف يستلزم الظن بالضرر.
الكبرى: الضرر المظنون يجب دفعه.
ودفع الضرر يكون بالعمل بالظن فيثبت لزوم العمل بالظن وهو معنى حجية الظن.
وفي مقام الجواب ذكروا أنّ الضرر في المقدمتين إما أن يُراد به الضرر الدنيوي وهو الوقوع في المفسدة أو الأخروي وهو العقاب، فإن أريد العقاب فالكبرى مُسلَّمة لكن الصغرى غير مُسلَّمة، ذلك باعتبار أنَّ إستحقاق العقاب من لوازم التكليف المنجَّز الواصل بالعلم أو بالحجة المعتبرة لا من لوازم ذات التكليف بوجوده الواقعي، والمفروض في محل الكلام عدم العلم والعلمي فلا منجَّز للتكليف، فلا ملازمة بينه وبين إستحقاق العقاب على المخالفة.
وقلنا إنَّ هذا الجواب مبني على مسلك قبح العقاب بلا بيان، وأما بناءً على مسلك حق الطاعة فاحتمال التكليف مطلقاً منجَّز على المكلف، ومن لوازمه إستحقاق العقاب على تقدير المخالفة، ويكون الظن بالتكليف ظناً باستحقاق العقاب على المخالفة وإن لم تقم الحجة عليه.
وإن اُريد الضرر الدنيوي بمعنى المفسدة فجوابه بإنكار الصغرى والكبرى في بعض الموارد أو الكبرى فقط في موارد أخرى، وبيانه:
إنّ التكليف المحتمل إذا كان ناشئاً من مفسدة نوعية عامة فالصغرى والكبرى ممنوعة، أما الصغرى فلأنَّ الظن بالوجوب مثلاً إذا كان ناشئاً من مصالح نوعية فهو لا يستلزم الظن بالضرر على تقدير المخالفة لأنّ غايته فوات المصلحة وهو غير الضرر فلا ملازمة، ويمكن القول أنَّ الظن بالوجوب يستلزم الظن بفوات المصلحة عند المخالفة، وفي التحريم كذلك فالمحرم الناشئ من مفسدة نوعية لا يستلزم الظن بالوقوع بالضرر الدنيوي عند المخالفة لأنّ المفروض فيه هو ترتب المفسدة النوعية العائدة على المجتمع لا الشخصية فليس هناك ضرر يترتب على نفس الفاعل، فالصغرى ممنوعة.
ويضاف إليه أنَّ الكبرى غير مسلَّمة إذ لا يوجد حكم عقلي يقول يجب دفع الضرر الدنيوي المظنون.
وأما المحرمات الناشئة من مفسدة شخصية كشرب الخمر الذي يستلزم الضرر الدنيوي الشخصي فالصغرى فيها مسلَّمة لكن الكبرى ممنوعة، إذ لا يستقل العقل بوجوب دفع الضرر الدنيوي المظنون أو المحتمل كما تقدم.
هذا بقطع النظر عن مسألة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها فإنها محل نظر أيضاً وإن كانت مشهورة وذلك لوجود آيات ظاهرة في أنَّ بعض المحرمات لا تنشأ من مفاسد في متعلقاتها كقوله تعالى: ﴿فَبِظُلۡمࣲ مِّنَ ٱلَّذِینَ هَادُوا۟ حَرَّمۡنَا عَلَیۡهِمۡ طَیِّبَـٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ كَثِیرࣰا﴾ النساء:160 ، فالحرمة هنا نوع من العقاب الإلهي فُرض على اليهود مع التصريح بأنَّ المحرم عليهم هو طيبات أُحلت لهم.
الوجه الثاني: أنَّ الأخذ بخلاف الظن ترجيح للمرجوح على الراجح وهو قبيح عقلاً، فيتعين الأخذ بالظن.
وكبرى قبح ترجيح المرجوح على الراجح مسلَّمة ولكنها لا تكفي بمفردها لإنتاج حجية الظن المطلق وإنما يُضم لها أمور منها:
1. إفتراض تنجُّز التكليف بالعلم الإجمالي بوجود أحكام شرعية إلزامية في ضمن الشريعة، وأما مع عدم تنجُّز التكاليف على المكلف فالمرجع هو البراءة لإحراز موضوعها وهو الشك في التكليف، وليس في هذا ترجيح للمرجوح على الراجح.
2. إفتراض عدم تمكن المكلف من الإحتياط، وإلا وجب عليه ذلك في كل شبهة فُرض تنجّزها بالعلم الإجمالي، وليس هنا ترجيح للمرجوح على الراجح.
3. إفتراض إنسداد باب العلم والعلمي، وإلا لو فرض إنفتاح باب العلم أو تمت الأدلة على حجية خبر الواحد فيتعين العمل وفق العلم أو الحجة المعتبرة، ولا يكون ذلك من ترجيح للمرجوح على الراجح.
وإنما تصل النوبة الى العمل بالظن إذا تمت هذه الأمور بأن تنجَّز التكليف على المكلف بالعلم الإجمالي، وأن لا يتمكن من الإحتياط أو لا يجب عليه ولو مع التمكن، وانسد باب العلم والعملي، فيدور الأمر بين أن يأخذ بالظن أو بالوهم وحينئذٍ يقال أنَّ ترك الظن والأخذ بخلافه ترجيح للمرجوح على الراجح.
وهذا يعني أن هذا الوجه وحده لا يثبت المطلوب إلا بإضافة هذه الأمور، ومع إضافتها يكون هو دليل الإنسداد لأنها هي مقدماته كما سيأتي، ومنها قبح ترجيح المرجوح على الراجح، إلا أنَّ المستدل ذكر هذه المقدمة وتخيل أنها تكفي لإثبات حجية الظن المطلق، ومثال ذلك:
لو دار أمر القبلة بين جهتين إحداهما مظنونة والأخرى موهومة، فالمفروض هنا تنجَّز التكليف على المكلف، وفرضنا عدم التمكن من الإحتياط بالصلاة الى جهتين ولو لضيق الوقت، مع عدم وجود دليل أو أمارة تُحدد له القبلة، فيدور الأمر بين الأخذ بالظن أو الوهم فيقال إنّ ترك الظن والأخذ بما خالفه ترجيح للمرجوح على الراجح، فيجب عليه العمل بالظن.
الوجه الثالث: دليل الإنسداد
وذكر الشيخ الأنصاري قده أنه يتألف من مقدمات أربعة، وأضاف إليها المحقق الخراساني قده مقدمة خامسة، أما ما ذكره الشيخ:
فالأولى: العلم الإجمالي بثبوت تكاليف واقعية، وهو يقتضي تنجُّزها.
الثانية: إنسداد باب العلم والعلمي في كثير من تلك التكاليف.
الثالثة: عدم وجوب الإحتياط التام في جميع أطراف هذا العلم الإجمالي، إما لعدم إمكانه وإما لاستلزامه إختلال النظام أو الوقوع في العسر والحرج.
ويضاف إلى هذه المقدمة عدم جواز الرجوع الى الأصل الجاري في كل شبهة، وعدم جواز الرجوع الى القرعة، وعدم جواز الرجوع الى فتوى من يرى الإنفتاح.
الرابعة: أنّ العقل يستقل بقبح ترجيح المرجوح على الراجح.
والكلام وقع في ما تنتجه هذه المقدمات إذا تمت، فتارة قالوا أنها تكشف عن جعل الشارع الحجية لمطلق الظن كما جعل الحجية للظن الخبري، وهذا ما أسموه بالكشف، وأخرى قالوا أنها تنتج حكم العقل بحجية الظن وعبروا عنه بالحكومة.