الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/04/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ الإستدلال على حجية خبر الواحد بالدليل العقلي/

بعد الفراغ عن الإيراد الثاني وجوابه نقول إنّ هذا الإيراد لا يُبطل أصل الوجه - لو تم - وإنما يوجب تصحيحه فبدلاً من أن ينتج حجية الأخبار مظنونة الصدور ينتج حجية الأخبار المظنون مطابقتها للواقع، وهذا ما يثبت المقصود وهو حجية الأخبار في الجملة في مقابل السلب الكلي ولكن مع التصحيح المذكور.

الإيراد الثالث: أن يقال إنَّ الوجه المُستدل به إنما يقتضي حجية الأخبار المثبتة للتكليف ولا يُثبت حجية الأخبار مطلقاً حتى ما كان منها نافياً للتكليف، والسر فيه هو أنَّ المدعى في هذا الوجه هو العلم الإجمالي بصدور بعض هذه الأخبار، وأنَّ مآل هذا العلم الإجمالي الى العلم الإجمالي بوجود أحكام واقعية في ضمن هذه الأخبار، وهو منجِّز لهذه التكاليف، فكل الأخبار المثبتة للتكاليف تكون طرفاً لهذا العلم الإجمالي فيجب الإحتياط بلحاظها، وأما الأخبار النافية للتكليف فلا تكون طرفاً فيه لا يكون مقتضى منجزية العلم الإجمالي حجية هذه الأخبار، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى يقول الإيراد هذا الوجه لا يستطيع أن يثبت حجة الأخبار المثبتة للتكليف على نحو تنهض أمام المطلقات والعمومات بالتقيد والتخصيص، والسر فيه أنَّ العلم الإجمالي لا يُثبت الحجية لهذه الأخبار وإنما يُثبت وجوب العمل بها من باب الإحتياط، كما أنه يوجب الإحتياط بلحاظ جميع أطرافه لولا التعذر والتعسر والحرج فنتنزل الى التبعيض في الإحتياط ونعمل بخصوص الأخبار مظنونة الصدور، ويتأكد عدم إمكان التقييد والتخصيص بهذه الأخبار في العمومات القرآنية.

وهذا الإيراد فتح باب البحث في أنّ الوجه الأول هل يتحد في النتيجة مع القول بالحجية أم هناك فارق بينهما، فتارة نقول بحجية خبر الواحد بدليل من الكتاب أو السنة أو السيرة، وأخرى نقول أنَّ الحجية ثبتت بمنجزية العلم الإجمالي، فهل الإلتزام بوجوب العمل بالخبر باعتبار منجزية العلم الإجمالي يفترق عن ثبوت الحجية للخبر بدليل معتبر؟

قد يقال: لا فرق بينهما بلحاظ العمل به إذ يجب العمل بالخبر سواءً كان حجة بدليل معتبر أم لمنجزية العلم الإجمالي، إلا في بعض الموارد كما في إسناد مضمون الخبر للشارع إذ لا يصح الإسناد إلا بحجة، فيجوز مع ثبوت الحجية للخبر ولا يجوز إذا كان وجوب العمل به من باب الإحتياط المنجزية العلم الإجمالي، وأما في غير هذا الحالة وما يُشبهها فقد يدعى أنه لا فرق بينهما بحسب النتيجة.

ولكن الصحيح وجود فارق عملي بين المسلكين، وتوضيحه:

يمكن تقسيم الأخبار الى قسمين: الأول الأخبار الدالة على الترخيص ولو بالإلتزام، الثاني الأخبار الدالة على الإلزام ولو بالإلتزام.

أما في القسم الأول فالقارق العملي بين المسلكين يكون واضحاً فبناءً على كونه حجة يجب العمل به حتى إذا كان في قباله أصل لفظي أو عملي يقتضي ثبوت التكليف، وأما بناءً على الإحتياط لمنجزية العلم الإجمالي فالعمل يكون بالأصول المثبتة للتكليف دون الخبر النافي له، لأنها أصول معتبرة ولا نرفع اليد عنها إلا مع حجة أقوى منها تتقدم عليها، وأما إذا لم يكن الخبر حجة وإنما يجب العمل به إحتياطاً فلا موجب لرفع اليد عما هو حجة بالفعل، وهذا فارق عملي مهم بين المسلكين.

قد يقال: لا يمكن الإلتزام بالعمل بالأصول اللفظية أو العملية في محل الكلام لأنَّ هذه الأصول إذا كانت تجري في جميع أطراف العلم الإجمالي فلابد من الإلتزام بسقوطها للعلم الإجمالي بصدور بعض الأخبار النافية للتكليف، كما لو علمنا بطهارة إناء في ضمن عشرة آنية كانت مورداً لاستصحاب بقاء التكليف، فهذا يعني العلم الإجمالي بسقوط الإستصحاب في أحد هذه الآنية فيقال إنَّ هذا الإستصحاب لا يجري في جميع الأطراف لأن جريانه في بعضها يكون معارضاً بجريانه في البعض الآخر للعلم بطهارة أحدها فيسقط الإستصحاب.

وفي محل الكلام قد يقال بسقوط هذه الأصول إذا كانت في جميع أطراف هذا العلم الإجمالي وذلك للعلم الإجمالي بصدور بعض الأخبار النافية مما يعني العلم بسقوط بعض هذه الأصول عن الإعتبار إجمالاً وهو يوجب تعارض الأصول في الأطراف وتساقطها وحينئذٍ يمكن الرجوع الى البراءة العقلية أو الشرعية إذا كان دليلها قطعياً.

وجوابه: الكلام تارة يكون بلحاظ الأصول العملية وأخرى بلحاظ الأصول اللفظية، أما الأول فالأصل العملي المثبت للتكليف في قبال الخبر النافي للتكليف هو إما أصالة الإشتغال أو إستصحاب بقاء التكليف، فهل يمكن إجراء أصالة الإشتغال في أطراف العلم الإجمالي مع العلم إجمالاً بانتفاء التكليف في واحد منها على الأقل ؟ ونفس الكلام يقال في إستصحاب بقاء التكليف.

أما أصالة الإشتغال - إذا كان دليلها قطعياً أو ثبتت بدليل معتبر غير محل الكلام - فالظاهر أنه لا مانع من جريانها في جميع الأطراف حتى مع فرض العلم الإجمالي بانتفاء التكليف في بعض هذه الأطراف وذلك لأنَّ العلم الإجمالي بالترخيص لا ينافي جريان الإشتغال لوضوح أنَّ مقتضى الإشتغال إذا كان تاماً في الأطراف فلا يصح رفع اليد عنه لمجرد العلم الإجمالي بالترخيص، والذي يُبرر رفع اليد عن أصالة الإشتغال في كل طرف هو العلم التفصيلي بالترخيص لأنه يرفع موضوع قاعدة الإشتغال وهو الشك، وأما العلم الإجمالي بالترخيص فلا يكون رافعاً لموضوع قاعدة الإشتغال لبقاء الإحتمال والشك محفوظاً في كل طرف بخصوصه، وذلك كالعلم الإجمالي بطهارة إناء من بين عشرة فنعلم بعدم التكليف في واحد منها إلا أنَّ إحتمال التكليف في كل طرف موجود، فهناك فرق بين العلم الإجمالي بالترخيص وبين العلم التفصيلي به ولا نرفع اليد عن قاعدة الإشتغال إلا بالثاني.