الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/04/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ أدلة حجية خبر الواحد من الكتاب / آية الكتمان وآية السؤال

كان الإستدلال بآية النَّفر وقنا أنه يتوقف على أمرين:

الأول: إستفادة وجوب الحذر مطلقاً ، وذكرت له تقريبات وتبين أنها غير تامة.

الثاني: إثبات الملازمة بين وجوب الحذر مطلقاً وبين الحجية، وهي وإن كانت معروفة بينهم إلا أنه يمكن التأمل فيها بإعتبار أنَّ الموضوع في الآية هو الإنذار وليس الإخبار ويمكن تسليم الملازمة في باب الإخبار بمعنى أنَّ وجوب قبول الخبر مطلقاً يكون ملازماً للحجية وأما الملازمة مع الإنذار فغير مسلَّمة وقد بيّنا أنَّ الإنذار لا يصدق إلا مع وجود منجز في مرحلة سابقة على الإنذار لأنَّ التخويف من العقاب مأخوذ فيه فلابد من فرض وجوده في مرتبة سابقة على الإنذار ووظيفة المنذِر هي تخويف المنذَرين من ترتب العقاب على مخالفة الحكم المنذَر به وهذا المعنى ليس مأخوذاً في الإخبار الصرف ، وعليه فإن ثبت أنَّ موضوع وجوب الحذر هو الإخبار مطلقاً فيمكن الإلتزام بثبوت الحجية له وأما إذا كان الموضوع هو الإنذار فالتنجيز والحجية ليس متفرعاً عليه بما هو إنذار وإنما هو بإعتبار ثبوت العقاب والتنجيز في مرحلة سابقة ووظيفة المنذِر هي الإشارة الى التنجيز الثابت قبل الإنذار فالحجية للتنجيز لا لإنذار المنذِر.

ومن هنا قالوا لابد من حمل الآية على ما هو متعارف في ذلك الزمان بين أهل القرى والأرياف من أنَّ الشبهات عندهم إما مقرونة بالعلم الإجمالي وإما هي شبهات قبل الفحص وفي كل منهما يكون التكليف منجزاً على المكلفين فلا ملازمة بين وجوب الحذر مطلقاً وبين حجية قول المنذر.

وتتمم هذه المناقشة ويؤيدها هو أنَّ المقصود من الحذر هو الحذر من العقاب كما مرّ.

ومن هنا يتبين أنَّ آية النَّفر غير تامة ولا يمكن الإستدلال بها على حجية خبر الواحد.

الآية الثالثة: آية الكتمان

وهي قوله تعالى ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡتُمُونَ مَاۤ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَیَّنَّـٰهُ لِلنَّاسِ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَیَلۡعَنُهُمُ ٱللَّـٰعِنُونَ﴾ البقرة:159

والآية واضحة الدلالة على حرمة كتمان من أنزل الله من البينات والهدى وحرمة الكتمان تعني وجوب الإظهار ، فكأنَّ الآية تقول يجب عليكم إظهار ما أنزلنا من البينات والهدى ، والإستدلال بها يكون على غرار الإستدلال بالآية السابقة بدلالة الإقتضاء حيث قيل هناك أنَّ وجوب الإنذار يلازم وجوب الحذر فإذا وجب الإنذار مطلقاً وجب الحذر كذلك ، فيقال هنا وبنفس البيان إنَّ وجوب الإظهار أو حرمة الكتمان يلازم وجوب القبول وإلا كان وجوب الإظهار لغواً ، وحيث أنَّ وجوب الإظهار أو حرمة الكتمان مطلق وغير مقيد بإفادة العلم فالقبول يكون مطلقاً أيضاً فيشمل خبر الواحد الظني وهو المطلوب.

ويرد عليه:

أولاً: ما تقدم في الآية السابقة من أنَّ هذا التقريب مبني على دلالة الإقتضاء أي أنَّ وجوب الإظهار يلازم وجوب القبول وإلا كان وجوب الإظهار لغواً فصوناً لكلام الحكيم عن اللغوية يُلتزم بوجوب القبول مطلقاً.

وفيه: ما تقدم من تسليم الملازمة بين أصل وجوب الإظهار وبين أصل وجوب القبول لكن لا ملازمة بين إطلاقيهما إذ يمكن تصور فائدة لوجوب الإظهار مطلقاً لكن القبول يكون مقيداً بما يُفيد العلم خاصة وهي أنَّ المولى يتوصل لغرضه بإيجاب الإظهار مطلقاً لضمان إظهار البينات والهدى في صورة عدم إحراز المبلغين إفادة السامع العلم أو إحرازهم عدم إفادة العلم فلا يظهرون البينات في هذه الحالة وبذلك يضمن الوصول الى أغراضه الواقعية ، وأما بلحاظ المستمعين فمن حصل له العلم كان حجة في حقه وإلا فلا ، هذا الإحتمال كاف في منع هذا التقريب.

وثانياً: بما ذكره المحقق الإصفهاني قده وهو أنَّ الآية ظاهرة في حرمة كتمان ما فيه مقتضي للظهور في نفسه وذلك بقرينة قوله تعالى ﴿مِنۢ بَعۡدِ مَا بَیَّنَّـٰهُ لِلنَّاسِ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ﴾ فتختص حرمة الكتمان بما فيه مقتض الظهور ويحرم إيجاد الموانع والحيلولة دون وصولها الى الناس وحينئذٍ لا تشمل الآية البينات التي ليس فيها هذا المقتضي كما في محل الكلام فالأخبار التي ينقلها لنا المخبرون ليس فيها مقتضي الظهور وعليه لا يمكن الإستدلال بالآية في محل الكلام.

وثالثاً: يحتمل أن يكون تحريم الكتمان في الآية تحريماً نفسياً وليس تحريماً طريقياً وذلك بإعتبار أن كتمان البينات والهدى يُشكل عناداً وتمرداً على الشارع فيحرم بحرمة نفسية لا طريقية وحينئذٍ يقال إنَّ عدم الملازمة بين تحريم الكتمان النفسي وبين وجوب القبول يكون أوضح لأنَّ هذا التحريم يكون لملاكات أخرى فتثبت الحرمة وإن لم يجب القبول.

الآية الرابعة: آية أهل الذكر

وهي قوله تعالى ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالࣰا نُّوحِیۤ إِلَیۡهِمۡۖ فَسۡـَٔلُوۤا۟ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾ النحل:43

والإستدلال بها كالاستدلال بالآيتين السابقتين وهو أنَّ وجوب السؤال يلازم وجوب القبول وإلا لكان وجوب السؤال لغواً، ويتمم الإستدلال أيضاً بأنَّ وجوب السؤال مطلق فوجوب القبول مثله ، فيجب قبول قول المسؤول وإن لم يفد العلم وهو معنى حجية خبر الواحد.

ونوقش في الإستدلال بها بمناقشات:

الأولى: الظاهر بمقتضى سياق الآية أنَّ المراد من أهل الذكر علماء اليهود لأنَّ صدر الآية يقول ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالࣰا نُّوحِیۤ إِلَیۡهِمۡۖ ﴾ فتنص على أنَّ المرسلين هم رجال مثلكم وليسوا ملائكة ثم تقول ﴿فَسۡـَٔلُوۤا۟ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾ وهم الذين أرسل فيه الرسل يخبروكم أنهم رجال مثلكم ، فلا يبعد أن تكون الآية ناظرة الى علماء اليهود ، نعم في رواياتنا هناك ما يدل على أنَّ أهل الذكر هم أهل البيت عليهم السلام ، وعلى كلا التقديرين تكون الآية أجنبية عن محل الكلام ولا يصح الإستدلال بها فإن كان المراد بها علماء اليهود فتكون ناظرة الى قضايا مرتبطة بالنبوة وإذا كانت مختصة بأهل البيت فتكون دالة على حجية قول أهل البيت عليهم السلام.

الثانية: لا يبعد أن يكون الغرض من إيجاب السؤال بقوله تعالى ﴿فَسۡـَٔلُوۤا۟ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ﴾ هو تحصيل العلم والذي أشار إليه بقوله ﴿إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾ أي حتى تعلموا وهو من قبيل قولك (سَل إن كنت جاهلاً) و (سَل حتى تعلم) فالغرض من هذا الأمر هو تحصيل العلم ويكون حجة عليه وهذا لا يعني قبول قول المخبر تعبداً كما هو المطلوب في محل الكلام.

الثالثة: من المحتمل أن يُراد من أهل الذكر أهل العلم لا مطلق المخبر ويكون جوابهم حجة بما هم علماء فتكون الآية أجنبية عن محل الكلام أيضاً لأنها تكون دالة على حجية الفتوى وإعمال النظر لا إلى حجية إخبار المخبر من دون إعمال النظر.