44/03/27
الموضوع: الظن/ أدلة حجية خبر الواحد من الكتاب / آية النَّفر
حاصل المناقشة الثانية هو أنَّ المقصود بالإنذار الواجب الذي جُعل غاية للنفر هو الإنذار بالدين لأنَّ المفروض أنَّ النفر للتفقه في الدين فموضوع وجوب الحذر هو الإنذار بالدين أي بالأحكام الشرعية الواقعية فإذا علمنا أنَّ ما أنذر به المنذِر من الدين فهو يعني العلم بمطابقته للواقع وحينئذٍ لا معنى لجعل الحجية لخبره، وإن لم نعلم بذلك فهذا يعني الشك في أنَّ ما أخبر به المخبر هل هو من الدين أو ليس منه ومع الشك في تحقق موضوع الحكم بوجوب الحذر لا يمكن التمسك بالآية لإثبات الحكم لأنَّ التمسك بكل دليل يتوقف على إحراز موضوعه، فلابد من إحراز الخمر أولاً لإثبات الحرمة له ولا يصح التمسك بنفس الدليل لإثبات حرمة هذا السائل المشكوك ويكون هذا من التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية له وهو غير جائز بلا إشكال، وفي محل الكلام لا يجوز التمسك بالآية لإثبات وجوب الحذر عند الشك في أنَّ ما أنذر به المنذِر هل هو من الدين أو ليس منه، وعليه لا يمكن إثبات الحجية لا في صورة العلم بأنَّ ما أنذر به المنذِر هو الحكم الواقعي ولا في صورة الشك لأنه تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية له.
وأجيب عنها بوجوه:
الأول ما ذكره السيد الخوئي قده في مصباح الأصول والذي يفهم منه هو أنَّ موضوع وجوب الحذر ليس هو الإنذار بالدين وبالأحكام الشرعية الواقعية وإنما موضوعه هو الإنذار بما تفقه فيه المنذِر ولا يستلزم أن يكون من الدين فإذا رجع المنذِر الى قومه وأنذرهم بما تفقه فيه وجب على قومه الحذر بحسب الآية ، وإنما يصدق هذا الموضوع إذا أنذر المنذِر بحرمة أو وجوب شيء فيكون قد أنذر بما تفقه فيه ويكون أيضاً مخبراً بترتب العقاب على إرتكاب ما أخبر بحرمته وترك ما أخبر بوجوبه فيصدق عليه الإنذار وليس الإخبار بالحكم فقط، أما أنه إخبار بما تفقه به فواضح ولا يشترط فيه أن يكون مطابقاً للواقع ، فإذا كان هذا هو موضوع وجوب الحذر فلا ترد المناقشة المتقدمة ولا يقال إن كان المخبَر به من الدين فنعلم بمطابقته للواقع ومعه لا معنى لجعل الحجية لخبره وإن لم نعلم به فيكون التمسك بالدليل من التمسك به في الشبهة المصداقية له ، وهذا كله فرع أن يكون موضوع وجوب الحذر هو الإنذار بالدين، وأما إذا كان الموضوع هو الإنذار بما تفقه فيه المنذِر وعلمتُ أنه مما تفقه فيه فلا يلازم ذلك العلم بمطابقته للواقع، كما أنَّ التمسك بالدليل لا يكون تمسكاً به في الشبهة المصداقية له وذلك لإحراز تحقق الموضوع بقطع النظر عن هذا الدليل ، نعم مع الشك في أنَّ ما أنذر به المنذِر هل هو مما تفقه فيه أو ليس كذلك فيكون التمسك بالدليل تمسكاً به في الشبهة المصداقية له.
والخلاصة المناقشة تقول إنّ موضوع وجوب الحذر هو الإنذار بالدين أي بالأحكام الواقعية الثابتة في الشريعة ، والسيد الخوئي يقول أنَّ الموضوع هو الإنذار بما تعلمه المنذِر وتفقه فيه وهذا ما يحرز عادة بحسب العدالة والوثاقة.
والتعليق عليه: هذا الجواب إنما يتم على تقدير أن يكون موضوع وجوب الحذر هو الإنذار بما تفقه فيه المنذِر وأما إذا كان الموضوع هو التفقه في الدين فلا يكون تاماً ، ولا يبعد أن الموضوع هو التفقه في الدين وهو صريح الآية ﴿فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةࣲ مِّنۡهُمۡ طَاۤىِٕفَةࣱ لِّیَتَفَقَّهُوا۟ فِی ٱلدِّینِ وَلِیُنذِرُوا۟ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ یَحۡذَرُونَ﴾ التوبة: 122
والتفقه يعني التعلم وغالباً ما يؤخذ في الأدلة على نحو الطريقية ولا يؤخذ كموضوع إلا مع القرينة الخاصة، فيثبت الحكم لذي الطريق وهذا يعني أنّ موضوع وجوب الحذر هو الواقع أي الدين والأحكام الشرعية الواقعية ويكون التعلم والتفقه طريقاً لأحرازها فإذا إستظهرنا ذلك فالمناقشة المتقدمة تكون تامة، وعليه فهذا الجواب غير تام على هذا الفهم.
الجواب الثاني: وهو منقول عن السيد الخوئي قده أيضاً كما في بحوث السيد الشهيد قده والمباحث الأصولية للشيخ الفياض، وحاصله سلّمنا أنَّ موضوع وجوب الحذر هو الإنذار بالدين وبالأحكام الشرعية الواقعية ولكن يمكن أن يُحرز أنَّ ما أنذر به المنذِر من الدين بالتعبد وذلك بواسطة جعل الحجية لإخبار المنذِر فإنَّ معنى الحجية هو التعامل مع خبر المخبر على أنه الواقع وبذلك نُحرز أنَّه من الدين تعبداً فيترتب عليه وجوب الحذر.
وكأنه يريد القول لا فرق بين أن يكون موضوع وجوب الحذر هو الإخبار بالدين أو هو ما تفقه فيه المنذِر فعلى كِلا التقديرين يمكن إثبات وجوب الحذر وذلك لإحراز موضوعه تارة بالوجدان وأخرى بالتعبد، هذا ما يفهم من الكلام المنقول عنه.
ولكن هذا الكلام بظاهره مشكل لأن موضوع وجوب الحذر هو الإنذار بالدين وهو يعني أنه موضوع الحجية فكيف يمكن إثباته بنفس الحجية؟ فالحجية متوقفة على أن يكون الإنذار إنذاراً بالدين فكيف نحرز الإنذار بالدين بتوسط الحجية الذي يعني توقف الإنذار بالدين على الحجية والحال أنها تتوقف على الإنذار بالدين! هذا دور.
لكن يمكن تبديل صياغة هذا الجواب بنحو لا يرد عليه هذا الإشكال وذلك بمراجعة كلام المحقق النائيني قده الذي هو الأصل في الجواب ومن المحتمل قوياً أن يكون المراد منه غير ما نقل عنه، قال في أجود التقريرات:
"وجوابه: أنَّ إحراز كون الإنذار بما تفقه بالدين أي بنفس الأحكام الشرعية إنما يثبت بنفس وجوب التحذر الدال على الحجية لا مع قطع النظر عنه.."
ثم يقول:
"..ونحن قد تعرضنا لها - أي للشبهة - مفصلاً في بحث الصحيح والأعم حيث ذكرنا شبهة المانعين من التمسك بـــ ﴿أَوۡفُوا۟ بِٱلۡعُقُودِۚ﴾ لإثبات صحة عقد مخصوص بأنّ الموضوع لوجوب الوفاء هو العقد الصحيح لا غير وما لم يُحرز ذلك لا يمكن التمسك به، وأجبنا بأنَّ الصحة إنما تثبت بنفس الحكم بوجوب الوفاء لا في مرتبة سابقة عليه"[1]
أي أنَّ موضوع وجوب الوفاء هو ذات العقد المتعارف لا العقد الصحيح عند الشارع والصحة تثبت لذات العقد عن طريق التمسك بــــ ﴿أَوۡفُوا۟ بِٱلۡعُقُودِۚ﴾.
وتطبيق ذلك في محل الكلام بأن يكون موضوع وجوب الحذر هو الإخبار بما تفقه فيه وتعلمه المنذِر والحجية تثبت له عن طريق التمسك بالدليل الدال على وجوب الحذر عند إنذار المنذِر بما تفقه فيه، فالحجية تستفاد من قوله تعالى ﴿لَعَلَّهُمۡ یَحۡذَرُونَ﴾ وليست ثابتة في مرتبة سابقة عليه.
وفي فوائد الأصول:
".. فإنَّ نفس الآية تدل على ما أنذر به المنذِر يكون من الأحكام - أي الأحكام الشرعية الثابتة واقعاً - لأنَّ قول المنذِر إذا جعل طريقاً إليها ومحرزاً لها فيجب إتباع قوله والبناء على أنه هو الواقع ... فالآية بنفسها تدل على أنَّ ما أنذر به المنذر يكون من الأحكام الواقعية."[2]
أي نتمسك بالآية لإثبات حجية ما أنذر به المنذِر وأما موضوع الحجية ووجوب الحذر فهو ما تفقه به المنذر.
أقول هذا الكلام يمكن تفسيره بغير ما تقدم في الجواب الثاني وهو أن نقول إنّ الموضوع لوجوب الحذر ليس هو الإنذار بما يكون من الأحكام الشرعية حتى يكون إحرازه ملازماً للعلم بالمطابقة للواقع بل كون المنذَر به من الأحكام الثابتة في الشريعة يثبت في طول الحجية فلابد أن يكون موضوع الحجية هو ما تفقه فيه وتعلمه وبهذا لا يرد عليه إشكال الدور المتقدم.