44/03/26
الموضوع: الظن/ أدلة حجية خبر الواحد من الكتاب / آية النَّفر
الكلام في الآية الثانية من الآيات التي إستُدل بها على حجية خبر الواحد وهي آية النَّفر قال تعالى:
﴿وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِیَنفِرُوا۟ كَاۤفَّةࣰۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةࣲ مِّنۡهُمۡ طَاۤىِٕفَةࣱ لِّیَتَفَقَّهُوا۟ فِی ٱلدِّینِ وَلِیُنذِرُوا۟ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ یَحۡذَرُونَ﴾ التوبة: 122
والإستدلال بها يتوقف على إثبات أمرين:
الأول: إنَّ الآية الشريفة تدل على وجوب الحذر عند الإنذار مطلقاً أي سواءً أفاد العلم أو لم يُفده.
الثاني: دعوى الملازمة بين وجوب الحذر مطلقاً على المنذَرين وبين حجية قول المنذِر.
فإذا تم هذان الأمران يقال إنَّ الآية تدل على حجية قول المنذِر الذي نفر للتفقه في الدين ثم رجع وأنذر قومه.
أما الأمر الأول فله عدة تقريبات:
التقريب الأول إستفادة وجوب الحذر مطلقاً من كلمة (لعلَّ) وذلك بإعتبار دلالتها على إنشاء الترجي وبمقتضى التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت لابد من إفتراض صدوره بداعي الترجي الحقيقي، وحيث أنه محال في حق المولى سبحانه لما فيه من العجز والجهل تعالى الله عن ذلك فلابد أن نفترض أنَّ الداعي لإنشاء الترجي هو مطلوبية الحذر، ومطلوبية الحذر تلازم وجوبه وذلك لأنَّ المقصود منه هو الحذر من العقاب ولو على مستوى الإحتمال لأنَّ إحتمال العقاب منجَّز بنظر العقل فلابد من أن يكون الحذر واجباً ، ولا معنى لأن يكون الحذر مطلوباً وليس واجباً وذلك بإعتبار أنَّ ما يقتضي الحذر - وهو إحتمال العقاب - إما أن يكون موجوداً أو لا وعلى الأول يكون الحذر واجباً وعلى الثاني لا يكون الحذر مطلوباً أصلاً ، فافتراض أن يكون الحذر مطلوباً وليس واجباً غير تام ولا نتصور معنى لإستحباب الحذر، وبهذا يثبت وجوب الحذر، وبمقتضى إطلاق الآية يثبت وجوبه مطلقاً سواءً أفاد قول المنذِر العلم أو لا.
التقريب الثاني أن يقال أنَّ الآية دلت على وجوب الإنذار بإعتبار وقوعه غاية للنفر وحيث أنَّ النفر واجب لدخول (لولا) الدالة على التحضيض عليه فيكون الإنذار واجباً أيضاً لأنَّ غاية الواجب واجبة، ومقتضى إطلاق الآية هو أنَّ وجوب الإنذار ثابت مطلقاً فيلزمه وجوب الحذر مطلقاً وإلا لزم لغوية وجوب الإنذار مع عدم وجوب الحذر، وهذا من قبيل الملازمة بين وجوب السؤال ووجوب قبول الجواب، فيثبت بدلالة الإقتضاء وصوناً لكلام الحكيم عن اللغوية وجوب الحذر مطلقاً وهو المطلوب.
التقريب الثالث أن يقال أنَّ الآية دلت على وجوب الإنذار وأنّ غايته هي الحذر فيكون الحذر واجباً للملازمة بين وجوب الشيء ووجوب غايته وذلك لأنَّ الحذر وقع غاية للإنذار والإنذار وقع غاية للنفر وحيث أنَّ النفر واجب وغاية الواجب واجبة فيثبت وجوب الحذر باعتبار وقوعه غاية للإنذار الواجب، وكما أنَّ مقتضى الإطلاق هو وجوب الإنذار مطلقاً فكذلك يكون وجوب الحذر مطلقاً أيضاً.
هذه تقريبات ثلاثة لدلالة الآية على وجوب الحذر مطلقاً وهي المقدمة الأولى للإستدلال.
ونوقش في هذه التقريبات بمناقشات عامة شاملة لها جميعاً وبمناقشات خاصة بكل تقريب من هذه التقريبات، أما المناقشات العامة فهي:
الأولى ما قيل في منع إطلاق الحذر في الآية - الشامل لصورة إفادة العلم وعدمه - وذلك باعتبار أنَّ الآية غير مسوقة لبيان ما يترتب على النفر والإنذار وإنما هي مسوقة لبيان وجوب النفر ووجوب الإنذار ومن الواضح أنَّ التسمك بالإطلاق يتوقف على أن يكون المتكلم في مقام البيان من الجهة التي يُراد التمسك بالإطلاق فيها ومع عدم كونه كذلك فلا يمكن التمسك بالإطلاق، والسر فيه هو أنّ المتكلم إذا كان في مقام البيان وجب أن يذكر كل قيد دخيل في حكمه ومع عدم ذكره يثبت الإطلاق ، وأما إذا لم يكن في مقام البيان فلا يثبت الإطلاق كما قيل في آية صيد الكلاب المعلّمة ﴿فَكُلُوا۟ مِمَّاۤ أَمۡسَكۡنَ عَلَیۡكُمۡ﴾ المائدة:4 فإنها في مقام بيان حلية ما يصطاده الكلب وليست في مقام بيان طهارة موضوع الملامسة فلا يمكن التمسك بالإطلاق من هذه الجهة ، وفي محل الكلام قالوا أنَّ الآية مسوقة لبيان وجوب النَّفر ووجوب الإنذار على المتفقهين في الدين وأما ما يترتب عليهما من الحذر فليست الآية مسوقة لبيان وجوبه حتى يقال مادام المتكلم لم يذكر القيد فلابد أن يكون وجوب الحذر مطلقاً ، وأما عدم كون الآية في مقام البيان من هذه الجهة فإن ذلك هو مقتضى ظهورها لأنّ الحذر ذكر كنتيجة لوجوب النفر والإنذار لا غير فليست الآية بصدد بيان وجوب الحذر.
وهذه المناقشة لا تختص بتقريب من التقريبات المتقدمة لأنها جميعاً تتوقف على إثبات الإطلاق في وجوب الحذر وإن إختلفت في كيفية إثباته.
لكن الظاهر أنَّ هذه المناقشة لا ترد على جميع التقريبات فالتقريب المبني على دعوى الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر لا يتوقف على إثبات أن يكون المتكلم في مقام البيان من جهة الحذر بل يكفينا في إثبات إطلاق وجوب الحذر أن يكون وجوب الإنذار مطلقاً وذلك باعتبار الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر ففي كل مورد يثبت فيه وجوب الإنذار يثبت فيه وجوب الحذر وهو معنى الإطلاق.
نعم قد ترد المناقشة على التقريب الأول المعتمد على كلمة (لعل) المفيدة للترجي وحيث أنَّ هذا الداعي محال فيحمل على مطلوبية الحذر ويدعى أنَّه مطلق فتأتي المناقشة وتقول أنَّ المتكلم ليس في مقام البيان من هذه الجهة فلا يمكن التمسك بالإطلاق.
المناقشة الثانية: أنَّ الإنذار الواجب الواقع موضوعاً لوجوب الحذر يراد به الإنذار بالدين أي بالأحكام الواقعية الثابتة في الشريعة فيجب على المنذَر الحذر إذا أنذره المنذِر بالدين ، فحينئذٍ إذا علم المنذَر بأنَّ ما قاله المنذِر ثابت في الدين فيجب عليه الحذر ولكنه لا يعني حجية قول المنذِر وإنما يجب الحذر لعلمه بالأحكام الواقعية في الدين لكن المطلوب هو إثبات هو حجية قول المنذِر ، وأما إذا لم يعلم المنذَر أنَّ المنذَر به من الدين فلا يمكن التمسك بالآية لإثبات وجوب الحذر بمعنى حجية قول المنذِر لأنه من التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية له وهو غير جائز.