44/03/19
الموضوع: الظن/ حجية خبر الواحد /الإستدلال على حجية خبر الواحد بالكتاب/آية النبأ/ الإعتراضات
كان حاصل الجواب الثالث عن الإعتراض الثاني هو أنَّ خبر العادل لا يدخل في عموم التعليل ويدخل في المفهوم فقط فلا تتحقق المعارضة وذلك لأنَّ المراد بالجهالة في الآية هو السفاهة لا عدم العلم ولا إشكال في أنَّ العمل بخبر العادل ليس عملاً سفهياً فلا يجب التبين فيه فيكون خبر العادل داخلاً في المفهوم فقط ويكون حجة ولا يعارضه شيء.
وقلنا أنَّهم إختلفوا في تفسير الجهالة بالسفاهة فاختاره بعض كالمحقق الخراساني في الكفاية ورفضه آخرون كالشيخ في الرسائل، وقد وردت الجهالة في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع غير آية النبأ والظاهر منها هو إرادة السفاهة قال تعالى:
﴿إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَـٰلَةࣲ ثُمَّ یَتُوبُونَ مِن قَرِیبࣲ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِیمًا حَكِیمࣰا﴾[1]
وقال:﴿وَإِذَا جَاۤءَكَ ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِـَٔایَـٰتِنَا فَقُلۡ سَلَـٰمٌ عَلَیۡكُمۡۖ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ أَنَّهُۥ مَنۡ عَمِلَ مِنكُمۡ سُوۤءَۢا بِجَهَـٰلَةࣲ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾[2]
وقال:﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِینَ عَمِلُوا۟ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَـٰلَةࣲ ثُمَّ تَابُوا۟ مِنۢ بَعۡدِ ذَ لِكَ وَأَصۡلَحُوۤا۟ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورࣱ رَّحِیمٌ﴾[3]
والظاهر أنَّ المراد من الجهالة هنا هو السفاهة وذلك بإعتبار أنَّ ظاهر هذه الآيات هو أنَّ من يعمل السوء يكون آثماً ومستحقاً للإدانة والعقاب بقرينة احتياجه الى التوبة ، وأما الجهالة بمعنى عدم العلم فلا إثم فيها ولا إدانة ولا تحتاج الى التوبة.
ولكن هذا بمفرده لا يكفي في الإلتزام بأنَّ المراد من الجهالة في آية النبأ هو السفاهة خصوصاً مع تعارف وشيوع إستعمالها في عدم العلم كما في الروايات ، فمن ذلك:
1. (..أيما رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه ..)[4]
2. (..عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم عليه السلام قال: سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة أهي ممن لا تحل له أبدا ؟ فقال: لا، أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك فقلت: بأي الجهالتين أعذر بجهالته أن يعلم أن ذلك محرم عليه. أم بجهالته انها في عدة؟ فقال: إحدى الجهالتين أهون من الأخرى الجهالة بأن الله تعالى حرم عليه ذلك وذلك أنه لا يقدر على الاحتياط معها فقلت: هو في الأخرى معذور؟ قال: نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها فقلت: وإن كان أحدهما متعمدا والآخر بجهالة؟ فقال: الذي تعمد لا يحل له أن يرجع إلى صاحبه أبدا[5] (.
فإطلاق الجهالة هنا بمعنى عدم العلم تارة بالموضوع وأخرى بالحكم
3. (..عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا تأكل من الصيد وأنت حرام وإن كان أصابه محل، وليس عليك فداء ما أتيته بجهالة إلا الصيد، فإن عليك فيه الفداء بجهل كان أو بعمد)[6]
4. (..علي بن يقطين قال:سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل جهل أن يطوف بالبيت طواف الفريضة، قال: إن كان على وجه جهالة في الحج أعاد وعليه بدنة)[7]
والمراد بها عدم العلم أيضاً ، وقد إستعملت في روايات أخرى في نفس الباب وأريد بها عدم العلم.
ويمكن ذكر شواهد على أنَّ الجهالة في الآية بمعنى عدم العلم منها استبعاد أن تكون مادة (جَهِلَ) موضوعة لمعنيين هما الجهل النظري وهو عدم العلم والجهل العملي بمعنى العمل السفهي وعدم نقل ذلك في كتب اللغة، بل ورد تخصيص الجهالة بعدم العلم ففي العين في باب (جَهِلَ): (إنَّ الجهل نقيض العلم ، والجهالة أن تفعل شيئاً بغير علم) ، وفي الصحاح: ( الجهل خلاف العلم ، وقد جَهِلَ فلان جهلاً وجهالة) ولم يذكر لها معنى آخر.
نعم لا ننكر إستعمال مادة (جَهِلَ) في العمل السفهي كما في الآيات المتقدمة والتي إستقربنا أنَّ الجهالة فيها بمعنى السفاهة وكما في قوله تعالى: ﴿خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَـٰهِلِینَ﴾[8] الأعراف:199 ولعل مناسبة هذا الإطلاق للإطلاق الأول هو توقع صدور العمل السفهي من غير العالم.
ويمكن أن تُذكر قرينة أخرى على أنَّ المراد هو عدم العلم وهو أن العمل بخبر الفاسق - وهو مرتكب الكبائر أو المصر على الصغائر - لا يصدق عليه أنه عمل سفهي إذا كان مأموناً في النقل ، بل لا يعلم أنَّ العمل بخبر الفاسق في مورد النزول نفسه يكون عملاً سفهياً وذلك باعتبار عمل العقلاء بخبر الفاسق إذا كان ثقة في النقل ، والصحيح أنَّ الآية تأمر بالتبين في خبر الفسق لأنه عملٌ بغير العلم.
والحاصل: أنَّ مفاد الآية الشريفة هو المنع من العمل بما لا يكون علماً لعلة كونه في معرض المخالفة للواقع وهذا معنى عام يشمل خبر العادل وسائر الأمارات الظنية ، ومن هنا لا يصح الجواب الثالث ويبقى الإعتراض على حاله.
إعتراض المحقق الأصفهاني
ذكر المحقق الأصفهاني اعتراضاً على المحقق الخراساني وحاصله: أنَّ خبر العادل - بقطع النظر عن آية النبأ - إما أن يكون حجة ومما يجدر العمل به أو لا يكون كذلك، وعلى الأول تثبت حجيته من دون الحاجة الى الإستدلال عليها بآية النبأ وعلى الثاني يكون العمل به سفهياً لأنه عمل بغير حجة فإذا كان كذلك شمله عموم التعليل فتعود المعارضة فتفسير الجهالة بالسفاهة غير مجدٍ في دفع الإعتراض.
ويظهر من هذا أنَّ الخلاف بينهم في أنَّ العمل بخبر العادل قبل ثبوت حجيته وبقطع النظر عن آية النبأ هل هو عمل سفهي أم لا ؟
يرى المحقق الخراساني أنه ليس عملاً سفهياً فلا يشمله عموم التعليل ويدخل في المفهوم ويصح الإستدلال به على حجيته، بينما يرى المحقق الأصفهاني أنه عمل سفهي لأنه عمل بغير حجة فيشمله عموم التعليل ، ويمكن أن يقال أنه لا يكون عملاً سفهياً والعقلاء لا يستنكرون العمل بخبر الثقة على الأقل في الأمور العادية ، فالأقرب هو ما ذكره صاحب الكفاية ولا يكون هذا الإعتراض وارداً عليه.