44/03/07
الموضوع: الظن/ حجية خبر الواحد /الإستدلال على حجية خبر الواحد بالكتاب / آية النبأ
كان الكلام في الإحتمال الثبوتي الثالث في الآية وهو أن الموضوع في القضية الشرطية هو (طبيعي النبأ) والشرط هو (مجيء الفاسق بالنبأ)، وقد إختلفوا فيه فذهب جماعة الى ثبوت المفهوم وذهب آخرون الى عدم ثبوته، والكلام في تحقيق هذا الإحتمال.
إستدل القائلون بعدم المفهوم بوجوه تقدم الأول منها، أما الوجه الثاني فهو ما قيل من أنَّ النبأ والإنباء متحدان ذاتاً ولا فرق بينهما إلا إعتباراً كالفرق بين الوجود والإيجاد فلا فرق بين (الولد) وبين (رزق الله الولد) سوى أنَّ الولد يمثل الوجود والرزق يمثل الإيجاد فيمكن القول أنهما متحدان والفرق بينهما إعتباري، والنبأ والإنباء أو الخبر والإخبار من هذا القبيل فإنَّ النبأ يمثل الوجود والإنباء يمثل الإيجاد، ومن الواضح أنَّ الشرط على الإحتمال الثالث وهو (مجيء الفاسق بالنبأ) هو عبارة عن الإنباء والإخبار فسيكون الموضوع هو (النبأ) والشرط هو (مجيء الفاسق بالنبأ) وهما متحدان كما مر والفرق بينهما إعتباري، وهذا يعني أنَّ الشرط من مقومات الموضوع فلا مفهوم لهذه الجملة وإنما يكون لها مفهوم إذا كان الشرط أجنبياً عن الموضوع غير متحد معه ، فالتركيز في هذا الوجه على أنَّ الشرط مقوِّم للموضوع.
قد يقال: كيف يكون الشرط من مقومات الموضوع والحال أنَّ الموضوع وهو (طبيعي النبأ) وهو يتحقق بمجيء العادل به كما يتحقق بمجيء الفاسق به ، وهذا يعني أنَّ الموضوع لا ينتفي بإنتفاء الشرط ومن هنا تختلف عن جملة (إن رزقت ولداً فإختنه) الذي ينتفي فيها الموضوع بإنتفاء الشرط.
وأجيب عنه: بأنَّ ما ذكر صحيح ولكن النبأ عند تحققه - سواءً كان بمجيء الفاسق أم بمجيء العادل به - يكون متقوماً بالشرط وهو الذي حققه ، والسر فيه هو أنه لا يمكن فرض وجود الموضوع مع إنتفاء كِلا الأمرين وهذا يعني أنَّ النبأ متقوم بالجامع بين الشرطين فأي منهما تحقق يكون الموضوع متقوماً به وبهذا يختلف عن شرطية (إذا جاءك زيد فأكرمه) وذلك بإعتبار إمكان فرض وجود (زيد) مع إنتفاء مجيئه ومع إنتفاء كل ما يمكن أن يكون بديلاً عن المجيء في إثبات الحكم وهذا بخلاف محل الكلام فإنه لا يتحقق مع إنتفاء هذين الشرطين ، فإمكان تحقق النبأ مع إنتفاء مجيء الفاسق به مُسلَّم ولكنه لا يعني عدم تقوم النبأ بمجيء الفاسق به فيكون الشرط مقوماً للموضوع ولا يكون للجملة مفهوم.
ويلاحظ عليه بما تقدم في مناقشة الوجه الأول وهو أنَّ الميزان في المفهوم وعدمه ليس كون الشرط غير مقوم للموضوع وإنما الميزان هو أن لا يكون إنتفاء الشرط مستلزماً لإنتفاء الموضوع وأما إذا كان كذلك فالجملة لا مفهوم لها، وفي محل الكلام إنتفاء الشرط (مجيء الفاسق بالنبأ) لا يلازم إنتفاء طبيعي النبأ لإمكان تحققه في نبأ العادل فلماذا يقال بعدم المفهوم! فالصحيح إنّ هذا الوجه ليس تاماً لإثبات عدم المفهوم.
بل يمكن الإستدلال على ثبوت المفهوم مضافاً الى رد الوجوه التي إستدل بها على عدم ثبوته بما تقدم في بحث المفاهيم من أنَّ ملاك دلالة الجملة على المفهوم هو أن تكون دالة على إرتباط بين الحكم والشرط زائداً على الإرتباط القائم بين الحكم والموضوع ، فالحكم معلق على الشرط كما هو معلق على موضوعه ، فالجملة التي تدل على هذا الإرتباط الزائد يكون لها مفهوم وإلا فلا ، وهذا الملاك لا إشكال في عدم تحققه إذا كان الشرط هو نفس الموضوع وترجع هذه القضية الى قضية حملية كما في (إن رزقت ولداً فإختنه) فهنا لا يوجد إلا إرتباط الحكم بموضوعه وهي ترجع الى قضية حملية مفادها (يجب ختان الولد) ولا مفهوم لها كما هو واضح ، وأما في محل الكلام فهذا الملاك متحقق والجملة تدل على إرتباط بين الحكم وبين الشرط علاوة على الإرتباط بين الحكم وموضوعه وذلك بإعتبار أنَّ الشرط في الآية بناءً على الإحتمال الثالث ليس هو نفس الموضوع ، نعم بناءً على الإحتمال الأول الذي ذكره الشيخ الأنصاري قده يكون نفس الموضوع وهو (نبأ الفاسق) ولا فرق بينه وبين (مجيء الفاسق بالنبأ) الذي هو الشرط ، ففي محل الكلام شيء آخر غير الموضوع عُلِّق عليه الحكم وهو الإرتباط الزائد بين الحكم والشرط فلابد من أن تكون الجملة دالة على المفهوم.
الى هنا يتم الكلام عن البحث الثبوتي في الإحتمالات الثلاثة في الآية الشريفة.
ثم الكلام يقع فعلاً في البحث الإثباتي وتحديد ما هو المستظهر من الآية فنقول:
ما هو الموضوع في قوله تعالى ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن جَاۤءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإࣲ فَتَبَیَّنُوۤا۟ أَن تُصِیبُوا۟ قَوۡمَۢا بِجَهَـٰلَةࣲ﴾ فهل هو طبيعي النبأ أم هو نبأ الفاسق؟
هنا أقوال بعدد الإحتمالات المتقدمة:
الأول: أنها ظاهرة في الإحتمال الأول أي أنَّ موضوعها هو (نبأ الفاسق) فكأنها تقول: (نبأ الفاسق إذا جاء به الفاسق يجب التَبيُّن فيه) ، والظاهر أن الشيخ الأنصاري قده إستظهر هذا الإحتمال من الآية.
وحاول المحقق الأصفهاني قده إقامة البرهان على هذا القول بما حاصله:
لو كان الموضوع في الآية هو (طبيعي النبأ) فلابد من الإلتزام بوجوب التَبيُّن في خبر العادل إذا جاء به الفاسق وذلك بإعتبار أنَّ خبر العادل وجود لطبيعي النبأ والمفروض أنّ (طبيعي النبأ) هو موضوع وجوب التَبيُّن فإذا تحقق الموضوع بمجيء العادل به ثبت له الحكم فيجب فيه التَبيُّن ولكن إذا تحقق الشرط وهو (مجيء الفاسق بالنبأ) وهذا لازم باطل لا يمكن الإلتزام به فلابد أن يكون الموضوع في الآية هو (نبأ الفاسق) لا (طبيعي النبأ).
ثم أجاب عن ذلك بما حاصله:
ليس المقصود من (طبيعي النبأ) هو الطبيعة المطلقة التي تتحقق في ضمن خبر العادل وخبر الفاسق بل المقصود هو الطبيعة اللابشرط القسمي والتي تعني رفض جميع القيود الوجودية والعدمية بمعنى لحاظ الطبيعة مع عدم لحاظ أي شيء معها لا مجيء الفاسق بالنبأ ولا عدمه ولا مجيء العادل به ولا عدمه، وبناءً عليه يكون تعليق الحكم على الشرط مستلزماً لقصر الحكم على حصة خاصة من الطبيعي بمعنى أنَّ الحكم لا يشمل الطبيعي الذي ينطبق على غير الشرط وإنما يختص بحصة من الطبيعي وهي الحصة التي عُلِّق فيها الحكم على الشرط أي النبأ الذي يأتي به الفاسق يجب فيه التَبيُّن ، ولا إشكال في أنَّ العرف يفهم من الآية أنَّ ما يجب التَبيُّن فيه هو خبر الفاسق وهو حصة خاصة من النبأ لا طبيعي النبأ الشامل لخبر العادل وهذا هو المقصود من طبيعي النبأ هنا ، وعليه لا يتم هذا الوجه.