44/03/05
الموضوع: الظن/ حجية خبر الواحد /الإستدلال على حجية خبر الواحد/ الكتاب العزيز
كان الكلام في أدلة حجية خبر الواحد وذكرنا أنه إستدل على حجيته بالأدلة الأربعة - الكتاب والسنة والإجماع والعقل - والكلام في الدليل الأول حيث إستدل على حجية الخبر بعدة آيات منها آية النبأ وهي قوله تعالى:
﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن جَاۤءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإࣲ فَتَبَیَّنُوۤا۟ أَن تُصِیبُوا۟ قَوۡمَۢا بِجَهَـٰلَةࣲ فَتُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَـٰدِمِینَ﴾[1]
وتقريب الإستدلال بها تارة يتم على أساس مفهوم الوصف وهو ﴿فَاسِقُ﴾ وأخرى يتم على أساس مفهوم الشرط بإعتبار اشتمالها على الشرط ﴿إِن جَاۤءَكُمۡ﴾ ، والكلام في الأول ، وتقدم أنَّ تقريب الإستدلال على أساس مفهوم الوصف له وجوه ذكرنا ثلاثة منها مع مناقشتها ، وإنتهينا الى الوجه الرابع وهو التفسير الثاني لكلام الشيخ الأنصاري ، وحاصله:
أنَّ خبر الواحد لو لم يكن يقتضي الحجية في حد نفسه فعدم الحجية يكون من باب عدم المقتضي وليس من باب وجود المانع ، وبشكل عام عدم الشيء في فرض عدم المقتضي يُسند إليه ولا يُسند الى وجود المانع ، وإنما يُسند عدم الشيء الى وجود المانع بعد وجود مقتضي له ، فلا يصح - حتى عرفاً - إسناد العدم الى وجود المانع مع عدم وجود المقتضي من الأساس، هذا واضح.
وحينئذ نقول إذا أسند في الدليل عدم الشيء الى المانع فنستكشف منه أنَّ المقتضي موجود، ويُراد تطبيق ذلك على الآية الشريفة فيقال:
إنَّ المستفاد من الآية هو أنَّ عدم حجية الخبر - الذي عبرت عنه بوجوب التَبيُّن ﴿فَتَبَیَّنُوۤا۟﴾ - أسند الى الفسق وهذا إسناد الى المانع وهو يكشف عن وجود مقتضي الحجية.
وبعبارة أخرى أنَّ مقتضي الحجية في الخبر هو كاشفيته عن الواقع بدرجة ما والآية لم تعلل وجوب التَّبيُّن - أي عدم الحجية - بعدم الكاشفية وهو عدم المقتضي وإنما ظاهرها هو تعليل عدم الحجية بفسق المخبر وهذا يعني إسناد عدم الحجية الى وجود المانع وهو يكشف عن وجود مقتضي الحجية في الخبر ، فيقال على أساس مفهوم الوصف إذا إنتفى الفسق بأن كان الجائي بالخبر عادلاً فالحجية تكون ثابتة لخبره لوجود المقتضي ، وعدم المانع يكون بالفرض بحسب مفهوم الوصف.
والمناقشة فيه - وقد تقدمت في مناقشة بعض الوجوه السابقة - هي:
إنَّ ما ذُكر - من أنَّ إسناد الشيء الى عدم المانع يُستكشف منه وجود المقتضي - صحيح ولكننا نقول أنَّ الذي ينتفي هو المانع الشديد ولا دليل على إنتفاء جميع الموانع ، بمعنى أننا نُسلِّم إمكان إستفادة وجود المقتضي في خبر الواحد في حد نفسه من الآية الشريفة وأنَّ الفسق مانع ، وأما إذا إنتفى الفسق فالـمُستَدِل يقول بثبوت الحجية لخبر الواحد لكن المناقشة تقول هل المنتفي هو المانع مطلقاً بمعنى عدم وجود أي مانع من الحجية أم المحرز هو إنتفاء المانع الشديد فقط ؟
الذي نحرزه هو الثاني - إنتفاء الفسق - وهو إنتفاء المانع الشديد بحسب المفهوم ولكن هذا وحده لا يكفي لإثبات الحجية لإحتمال وجود مانع آخر أضعف من الفسق يمنع من الحجية ، وكيف يمكن نفي هذا المانع وبالتالي إثبات الحجية خبر العادل؟
ومن تلك العناوين التي تُشكل مانعاً من الحجية عنوان (الخبر الذي يُحتمل فيه الكذب) وهو يجتمع مع العدالة ، فبالرغم من إنتفاء الفسق يكون هناك مانع من حجية الخبر ، وهذا لا يمكن فرض إنتفائه.
وبعبارة أخرى ألا يمكن القول أنَّ خبر الواحد مطلقاً ليس حجة ؟ كما قالوا أنَّ الأصل الأولي في الخبر هو عدم الحجية مطلقاً ، وهذا يعني كما أنَّ الفسق مانع فكذلك العدالة ولو بعنوان آخر كاحتمال الكذب، وهذا كما ينطبق على خبر الفاسق بدرجة شديدة ينطبق أيضاً على خبر العادل ، فهذا إحتمال قائم ولابد من نفيه حتى نصل الى أنَّ خبر العادل حجة.
هذه هي مناقشة الوجه الرابع والأخير من الوجوه التي تعتمد على مفهوم الوصف.
وقد تبيّن أنَّ هذه الوجوه غير تامة جميعاً.
التقريب الثاني الذي يعتمد على أساس مفهوم الشرط
وتقريب الإستدلال به هو أنَّ ظاهر الآية هو تعليق الحكم بوجوب التَّبيُّن على شرط وهو مجيء الفاسق بالنبأ ، وهذا التعليق يدل على إنتفاء الحكم عند إنتفاء الشرط ، فإذا إنتفى الفسق بأن جاءنا عادل بنبأ فينتفي الحكم فلا يجب التَّبيُّن في خبره ، فكأن الآية تفصل منطوقاً ومفهوماً بين ما إذا كان الجائي بالنبأ فاسقاً فيجب فيه التَّبيُّن وبين ما إذا كان الجائي به عادلاً فلا يجب فيه التَّبيُّن والذي يفهم منه حجية خبر العادل خصوصاً مع مقابلته بوجوب التَّبيُّن في خبر الفاسق.
فقد تبيّن أننا نثبت بمفهوم الشرط أنَّ الخبر إذا جاء به العادل لا يجب فيه التَّبيُّن ثم ننتقل من ذلك الى حجية خبر العادل وقد ضُمت الى هذه الانتقالة مقدمة عبروا عنها بمقدمة الأسوئية وذلك باعتبار أنّ الموقف من خبر العادل لا يخلو من أحد أمرين فإما أن نعمل به وهو يعني الحجية وهو المطلوب، وإما أن نرده من دون تبيُّن وهذا باطل إذ يلزم منه أسوئية خبر العادل من خبر الفاسق لأنّ خبر الفاسق يجب فيه التَّبيُّن وهو يعني عدم رده مع التَّبيُّن ، وإذا كان الثاني باطلاً ثبت الأول أي العمل بخبر العادل وهو معنى الحجية.
وقد ذكرنا في التقريب الأول القائم على أساس مفهوم الوصف عدم الحاجة الى هذه المقدمة، فسواء فسَّرنا وجوب التَّبيُّن - بعد استبعاد الوجوب النفسي - بالوجوب الشرطي أو قلنا أنّه إرشاد الى عدم الحجية فعلا كِلا التقديرين يتم الإستدلال بالآية على أساس مفهوم الشرط بلا حاجة الى ضم مقدمة الأسوئية.
وهناك إعتراضات على هذا التقريب:
الأول ما ذكره الشيخ الأنصاري قده في الرسائل وحاصله: أنَّ المفهوم في هذه الآية هو من باب السالبة بانتفاء الموضوع كما في قولك (إذا رزقت ولداً فاختنه) وهي قضية شرطية لا مفهوم لها ، وذلك لأنَّ المفهوم يشترط فيه إنتفاء الحكم عن الموضوع عند إنتفاء الشرط ، فلابد من إفتراض وجود الموضوع الذي ثبت له الحكم مع وجود الشرط ، وهذا يعني أنه يشترط في المفهوم أن لا يكون إنتفاء الشرط مستلزماً لإنتفاء الموضوع ، والشيخ في إعتراضه يقول أنَّ الشرط في الآية مقوم للموضوع وانتفاؤه يستلزم إنتفاء الموضوع فتكون هذه الشرطية من باب السالبة بإنتفاء الموضوع ومثل هذه القضايا لا مفهوم لها.