الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/11/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية خبر الواحد /الإستدلال على حجية خبر الواحد

الدليل الرابع: العقل

قيل إنَّ العقل يحكم بعدم حجية خبر الواحد، وقد تقدم بحثه في مسألة الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري حيث تعرضنا هناك الى شبهة إبن قِبة الذي يقول باستحالة التعبد بالظن فيستحيل التعبد بخبر الواحد، وقد أجبنا عن هذه الشبهة وأنه لا مانع من التعبد بالظن ولا يحكم العقل بعدم حجية خبر الواحد، فلا مانع من حجيته من جهة العقل.

هذا تمام ما استُدل به على عدم حجية خبر الواحد.

المقام الثاني: ما استُدل به على حجية خبر الواحد

إستدل على حجية الخبر بالأدلة الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل، أما من الكتاب فاستدل بآيات:

الأولى: آية النبأ وهي قوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [1]

إستدل بها على حجية خبر الواحد بتقريبين: الأول ما يعتمد على مفهوم الوصف، والثاني ما يعتمد على مفهوم الشرط.

أما التقريب الأول الذي يعتمد على مفهوم الوصف فيمكن بيان كيفية الإستدلال به بوجوه:

الوجه الأول: أن يقال إنَّ الآية الشريفة يُستفاد منها أنَّ الحكم بوجوب التَّبيُّن معلَّق على فسق من جاء بالنبأ، فيقال في تقريب هذا الوجه ما هو المراد بوجوب التَّبيُّن؟

قالوا لا إشكال في أنَّ وجوب التَّبيُّن ليس وجوباً نفسياً وإنما هو وجوب شرطي للعمل بالخبر الذي جاء به الفاسق، والمقصود بالتَّبيُّن هو معرفة صدق الخبر من كذبه، فلا يجوز العمل بهذا النبأ من دون شرطه وهو التَّبيُّن، فيكون مفاد الآية هو أنَّ الخبر الذي يأتي به الفاسق يجب التَّبيُّن فيه، وبناءً على ثبوت مفهوم الوصف يكون مفهوم الآية هو أنَّ خبر غير الفاسق لا يجب التَّبيُّن فيه وهو خبر العادل، ومعنى ذلك هو أنَّ العمل به ليس مشروطاً بالتُّبيُّن، وهو معنى الحجية.

وقد يقال يُحتمل أن يُرد خبر العادل من دون تبيُّن، وهنا تأتي مقدمة الأسوئية فإن هذا الإحتمال يلزم منه أن يكون العادل أسوأ حالاً من الفاسق لأن الثاني قبلنا بخبره بعد التَّبيُّن، ورد خبر العادل حتى مع التبين غير معقول، إذن العادل لا يُعتبر في العمل بخبره التَّبيُّن وهذا هو معنى الحجية.

هذا هو التقريب الإبتدائي للتمسك بمفهوم الوصف في محل الكلام.

وذكر الشيخ الأنصاري قده بعد أن ذكرَ هذا التقريب أنه لا حاجة لمقدمة الأسوئية، ولعل مقصوده هو ما أشرنا إليه وهو أنه لا يُعقل رد خبر العادل بعد تبيُّن صدقه، فالعمل بخبر العادل لا يحتاج الى تبيُّن، لا بمعنى رد خبره بلا تبيُّن وإنما بمعنى لا حاجة الى تبين صدقه في مقام العمل بخبره وذلك لخصوصية كونه عادلاً وثقة، وهذا وهو معنى حجية خبر الواحد.

وهذا التقريب يتوقف على أمور:

الأول أنَّ وجوب التَّبيُّن وجوب شرطي وليس نفسياً، بمعنى أنه مقدمة للعمل فالعمل بخبر الفاسق مشروط بتبيُّن صدقه، فيكون مفاد المفهوم أنَّ عمل العادل ليس مشروطاً بتبين صدقه، وهذا يعني إما جواز العمل مع عدم تبين صدقه وهو المطلوب، وإما أن يعني عدم جواز العمل به حتى بعد تبين صدقه وهو غير معقول.

توضيح آخر للوجه الأول: إنَّ تعليق الحكم بوجوب التَّبيُّن على الفسق يقتضي إنتفاؤه بانتفائه، وإذا إنتفى الوصف عن خبر غير الفاسق فإما أن يُرَد من دون تبيُّن أو يقبل كذلك والأول يستلزم أسوئية غير الفاسق من الفاسق فيتعين الثاني وهو معنى الحجية.

وهذا الإستدلال مبني على مقدمتين:

الأولى: أن يكون وجوب التَّبيُّن وجوباً شرطياً وأما إذا كان وجوباً نفسياً فلا علاقة له بالعمل، وهو واضح لأنَّ مادة التبين كالتعلم تؤخذ على نحو الطريقية لغيرها وليست مطلوبة لذاتها نحو قوله تعالى:

﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾[2]

فمادة التبيُّن تؤخذ كطريق لغيرها وليست مطلوبة لنفسها وهذه المادة هي الواردة في الآية الشريفة ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ بنحو تكون مقدمة لشيء آخر وهو العمل بالخبر فوجوب التَّبيُّن وجوب شرطي.

الثانية: لابد من إثبات مفهوم الوصف.

فإذا تمت هاتان المقدمتان تم الإستدلال بتقريبه الأول.

ولوحظ على هذا الوجه بملاحظات:

الملاحظة الأولى: لا موجب لإقحام مقدمة الأسوئية في الإستدلال كما أشار إليه الشيخ الأنصاري، فإذا قلنا أنَّ وجوب التَّبيُّن وجوباً شرطياً فالمنطوق يعني أنَّ العمل بخبر الفاسق مشروط بتبين صدقه والمفهوم يعني أنَّ العمل بخبر العادل ليس مشروطاً بتبين صدقه، وهو معنى الحجية وهو المطلوب.

الملاحظة الثانية: إنَّ هذا التقريب يبتني على مفهوم الوصف فإذا أنكرنا ذلك فلا يمكن الإستدلال بالآية على حجية خبر العادل، ونقتصر حينئذٍ على منطوقها فقط، وأما خبر العادل فمسكوت عنه، والنزاع في مفهوم الوصف هو أنَّ الجملة الوصفية هل تدل على إنتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء الوصف وهو المعبر عنه بالسالبة الكلية فـجملة (أكرم الرجل العادل) لو كان لها مفهوم فهو يعني إنتفاء طبيعي الحكم عند إنتفاء الوصف (العدالة)، أم أنَّ المنتفي عند إنتفاء الوصف هو الحكم في الجملة لا طبيعي الحكم، فالدليل يدل على أنه لا يمكن أن يكون الحكم ثابتاً عند إنتفاء الوصف في جميع الحالات، وأما إنتفاء الحكم في بعض الحالات دون بعض فلا مانع منه ولا ينافيه التقييد بالوصف، وفرقٌ بينهما فإنَّ إنتفاء طبيعي الحكم بإنتفاء الوصف يعني إذا إنتفى وصف العدالة إنتفى وجوب الإكرام عن غير العادل مطلقاً وفي جميع حالاته، وبه يثبت المفهوم إلا أنه لا دليل عليه وإنما الدليل يدل على السالبة الجزئية، والدليل على ذلك هو أنَّ الإيجاب الكلي غير معقول بمعنى أنَّ ثبوت وجوب الإكرام بعد إنتفاء الوصف في كل حالات الفاقد للوصف غير معقول إذ لا فرق حينئذٍ بين الواجد للوصف وبين الفاقد له فكل منهما يجب إكرامه، ويكفي لإشباع هذه النكتة هو الإلتزام بالسلب الجزئي أي أنَّ الحكم ينتفي عن الفاقد للوصف لكن لا بنحو السلب الكلي وإنما بنحو السلب الجزئي فبعض حالات الفاقد للوصف لا يجب إكرامه وهذا لابد منه.

ومن هنا التزموا بأنَّ الجملة الوصفية لها مفهوم ولكن بنحو السلب الجزئي لا السلب الكلي فلا يمكن القول أنَّ (أكرم الرجل العادل) فيها دلالة على إنتفاء وجوب الإكرام عن الرجل غير العادل في جميع الحالات حتى إذا كان هاشمياً أو عالماً مثلاً فهذا لا دليل عليه، وإنما قيّد بالوصف للاحتراز ولكن لا يستفاد منه السلب الكلي وإنما يكفي لإشباع هذا الاحتراز السلب الجزئي فإذا كانت بعض حالات الرجل غير العادل لا يجب فيها إكرامه فهذا يُبيح للمتكلم أن يقيد وجوب الإكرام بالعادل.

هذه هي المناقشة المبنائية التي تُذكر في مفهوم الوصف.


[1] سورة الحجرات، الآیة6.
[2] سورة البقرة، الآیة187.