الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/11/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية خبر الواحد /الإستدلال على عدم الحجية

تبين مما تقدم أنَّ الإستدلال بهذه الطائفة من الأخبار التي ورد فيها عنوان (المخالفة) على عدم حجية خبر الواحد ليس تاماً لتمامية بعض الوجوه المتقدمة في رده على الأقل، لكن تبقى هذه الطائفة دالة على عدم حجية الخبر المخالف بنحو التباين وكذا الخبر المخالف بنحو العموم والخصوص من وجه فلا محذور من الإلتزام بعدم الحجية في هذين القسمين.

ومن هنا يقع الكلام في أنَّ الخبر المخالف للكتاب بنحو العموم والخصوص من وجه هل يسقط عن الإعتبار رأساً أم في خصوص مادة الإجتماع، أي هل يبقى حجة في موارد افتراقه عن الكتاب أو يقسط عن الإعتبار مطلقاً؟

قد يقال بسقوطه عن الإعتبار مطلقاً حتى في موارد افتراقه عن الكتاب ويًستدل لذلك بدعوى أنَّ العنوان الوارد في هذه الأخبار هو عنوان الحديث والخبر (يأتي عنكم الخبران، الحديثان المختلفان) فيجيبه الإمام عليه السلام اعرضوه على كتاب الله فما وافق الكتاب فخذوه وما خالفه فدعوه، وبناءً على شمول هذه الطائفة للخبر المخالف للكتاب بنحو العموم والخصوص من وجه فهذا الحديث إذا كان مخالفاً للكتاب فدعوه، وهذا يعني أنَّ هذا الخبر ليس حجة فكما تدل هذه الطائفة على أنَّ الخبر المخالف بنحو التباين ليس حجة فكذلك الخبر المخالف بنحو العموم والخصوص من وجه، وهذا يعني سقوط الحديث كله عن الإعتبار.

وبعبارة أوضح إنَّ مفاد الروايات هو سقوط الحديث عن الإعتبار وليس سقوط إطلاقه عن الإعتبار فإن التفريق بين مادة الإجتماع ومادة الإفتراق يعني سقوط إطلاق الحديث لمادة الإجتماع عن الإعتبار، إلا أنَّ ظاهر الرواية هو عدم حجية أصل الحديث فيُبنى على عدم حجيته من دون فرق بين مادة الإجتماع ومادة الإفتراق.

لكن الملاحظ أنَّ هذه الطائفة ليست على نحو واحد حتى يُتمسك بذلك فبعضها خال من عنوان (الحديث، الخبر) وإنما فيها (ما يخالف كتاب الله فدعوه) والمخالف للكتاب هو إطلاق الحديث وليس أصل الحديث فلا تدل هذه الأخبار على أكثر من سقوط إطلاق الحديث لمادة الإجتماع عن الحجية وأما مادة الإفتراق فباقية على الحجية.

وبعبارة أخرى إنَّ هذه الحالة ليست بأشد من حالة العلم بعدم مطابقة الإطلاق للواقع فكما أنَّ ذلك لا يؤدي الى سقوط أصل الحديث وسنده وإنما يسقط إطلاقه عن الإعتبار ويبقى أصل الحديث وسنده حجة فما نحن فيه ينبغي أن يكون أوضح من ذلك لعدم العلم بمخالفة الحديث للكتاب وإنما المخالف هو إطلاق الحديث فيعمل به في موارد الإفتراق.

ومن هنا يظهر أنَّ الصحيح هو أنَّ الخبر المخالف للكتاب بنحو العموم والخصوص من وجه - بعد افتراض شمول هذه الطائفة له - لا يسقط عن الإعتبار رأساً وإنما يسقط عن الإعتبار في مادة الإجتماع ويبقى حجة في غيرها، وهذا نافع جداً في الفقه.

هذا تمام الكلام في الإستدلال على عدم حجية خبر الواحد بالسُّنة.

الدليل الثالث: الإجماع

وهو الذي إدعاه السيد المرتضى قده، بل المنسوب إليه هو القول إنَّ هذا من ضروريات المذهب كعدم حجية القياس، وهذا يعني أنَّ من ينكر ذلك فهو ينكر ضروري من ضروريات المذهب، فعلى رأي المشهور أنه إذا التفت الى الملازمة فهو خارج من المذهب.

قد يُجاب عنه بوجوه:

الأول إنَّ هذا إجماع منقول وليس بحجة.

وفيه إنَّه وإن كان إجماعاً منقولاً بالنسبة لنا لكنه واجد لشرائط الحجية التي يمكن تحديد رأي الشارع على ضوئها، وذلك باعتبار أنَّ الإجماع المنقول يكون حجة بشروط:

الأول: أن يكون المقدار المنقول من أقوال الفقهاء بهذا الإجماع كاشفاً عن قول المعصوم، فلو فرضنا أنَّ الشيخ الطوسي نقل لنا إجماع الفقهاء على مسألة فقهية وكان ذلك كاشفاً عن رأي الشارع بأحد الطرق المتقدمة لكفى ذلك.

الثاني: أن يكون نقل الإجماع عن حس لا عن حدس كما لو آمن الفقهاء بقاعدة كلية والناقل يرى أن هذا الفرع من تطبيقاتها فهذا يكون إجماعاً حدسياً.

الثالث: أن يكون الناقل ثقة.

ومن هنا يقال إنَّ هذه الشروط متوفرة في محل الكلام بمعنى أنَّ المقدار الذي نقله السيد المرتضى من إتفاق الفقهاء كاشف عن رأي المعصوم وهذا ما يُشير إليه تعبيره بأنه من ضروريات المذهب وأنه كعدم حجية القياس، وفرق بين هذا التعبير وبين أن يقول إتفق الفقهاء، فما ينقله هو رأي المعظم على الأقل، وهذا المقدار يكون كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام، هذا بالنسبة الى الشرط الأول.

وأما الشرط الثاني فالظاهر تحققه لأنه يدعي أنه من ضروريات المذهب والضروريات تعرف بالحس، مضافاً الى أصالة الحس الجارية عند الشك في النقل وهي أصل عقلائي يبنون عليه فعندما ينقل لنا الناقل أمراً حسياً فالأصل فيه أنه ينقله عن حس لا عن حدس.

وأما الشرط الثالث فالسيد المرتضى ثقة بلا إشكال.

فلا يكفي في رد الإجماع مجرد كونه منقولاً فقد يكون حجة لأحد الوجوه المتقدمة في بحث الإجماع ومنها حساب الإحتمالات، فلابد من بيان آخر في رده.

والجواب الثاني: أن يقال إنَّ هذه الدعوى مما نقطع ببطلانها وذلك لأنَّ المشهور يبني على حجية خبر الواحد فكيف يقال بالإجماع على عدم حجيته! وهذا مما ينبغي أن يكون واضحاً ولذا لم يذكروا موافقاً للسيد المرتضى إلا الشيخ إبن إدريس، هذا ما يؤدي الى الجزم بعدم صحة دعوى الإجماع أو التشكيك فيها على الأقل.

فإذا قطعنا بعدم صحة هذه الدعوى فأدلة حجية الخبر لا تشمل نقل السيد المرتضى لأنها تشمل الأمارة في حالة الشك وأما في حالة القطع بعدم المطابقة فلا تشملها أدلة الحجية.

الجواب الثالث: أنَّ هذه الدعوى معارضة بدعوى الشيخ الطوسي الإجماع على حجية خبر الواحد، وهذا من العجائب لأنهما متعاصران ولذا لابد من عدم الأخذ بظاهر الكلام والمصير الى تأويل كلامهما كما سيأتي، فدعوى السيد المرتضى تسقط بالمعارضة إذا لم نُرجح دعوى الشيخ الطوسي.

ومن هنا لا يمكن قبول هذه الدعوى، فلابد من توجيه كلام السيد المرتضى ومن هنا ذكرت توجيهات في المقام:

التوجيه الأول - ولعله من أهمها - إنَّ السيد المرتضى لا يريد بالأخبار التي إدعى الإجماع على عدم حجيتها أخبارنا التي يرويها الثقات من أصحابنا وإنما يريد ما يرويه المخالفون، وبهذا يمكن تصديق كلامه ولا يعارضه إجماع الشيخ الطوسي على حجية خبر الواحد، فالموضوع متعدد.

والسر فيه هو أنَّ السيد المرتضى بمقتضى احتكاكه ومطالسته لفقهاء العامة وكونه مرجعاً في بغداد وهي متعددة المذاهب آنذاك وأنهم يحضرون مجلسه فلا يمكن أن يرد الخبر بأنه مما يرويه العامة فلا يكون حجة ويصعب التصريح بذلك في ذلك الزمان وإنما يتوصل الى رده بقوله أنَّ الإجماع على رده لأنه من خبر الواحد ومقصوده الخبر الذي يرويه العامة، ويشهد لذلك ما ذكره الشيخ في العُدة، حيث قال عند توجيه الإشكال على نفسه ما حاصله:

"فإن قيل: أليس شيوخكم لا تزال يناظرون خصومهم في أنَّ خبر الواحد لا يُعمل به ... فكيف تدعون أنتم خلاف ذلك؟"

فأجاب عنه:

"بأن الذين أشرتَ إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد إنما كلموا من خالفهم في الإعتقاد ودفعوهم عن وجوب العمل بما يرونه من الأخبار المتضمنة للأحكام التي يرون هم خلافها وذلك صحيح على ما قدمناه ولم نجدهم إختلفوا فيما بينهم وأنكر بعضهم على بعض العمل بما يروونه"[1]

ولعل الإشارة بالمنكرين هنا الى السيد المرتضى، وهذه عبارة مهمة لأنَّ الشيخ الطوسي تلميذ السيد المرتضى ويعلم مقصوده.

التوجيه الثاني: إنَّ المقصود من عدم حجية خبر الواحد هو عدم حجيته في نفسه وبما هو ظن وهذا لا ينافي حجيته إذا قام الدليل عليه.

التوجيه الثالث: ما نقله السيد الخوئي قده عن المحقق النائيني قده من أنَّ خبر الواحد له إصطلاحان:

أحدهما ما يقابل الخبر المتواتر والخبر المحفوف بالقرينة القطعية، وهو المقصود هنا.

والآخر هو الخبر الضعيف في مقابل الخبر الصحيح والموثق، وبهذا يمكن الجمع بين القولين فالسيد المرتضى يجري على الإصطلاح الثاني أي الخبر الضعيف، والشيخ الطوسي يجري على الإصطلاح الأول أي الخبر في مقابل الخبر المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعية وبهذا يرتفع التعارض.


[1] العُدة، الطوسي، ص205-206 ط. مؤسسة بوستان كتاب.