الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/11/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية خبر الواحد /الإستدلال على عدم الحجية

حجية خبر الواحد

والمراد به هو الخبر الذي لا يُفيد العلم سواءً كان واحداً أو أكثر، والكلام يقع في حجيته، ويطلق عادة في مقابل الخبر المتواتر الذي يُفيد العلم أو الإطمئنان عادة ولا يُبحث عن حجيته لأنه إفترض فيه إفادة القطع أو الإطمئنان فيكون حجة بلا شك.

ذكر الشيخ الطوسي في العدة أنَّ حجية خبر الواحد تثبت بإتمام ثلاثة أمور: الظهور وجهة الصدور والصدور، فخبر الواحد إذا كان ظاهراً في شيء وأحرزنا صدوره وأحرزنا جهة الصدور أي أنه صدر بداعي بيان الحكم الواقعي فحينئذٍ يكون حجة فيما هو ظاهر فيه.

أما الجهة الأولى - الظهور - فلا يُبحث فيها في المقام وإنما تُبحث في مباحث الألفاظ وما به يُشخص الظهور أو تُبحث بحثاً فقهياً استظهارياً خاصاً بدليل معين فإذا شخصنا الظهور كان حجة بناءً على ما استدل به على حجية الظواهر، ولكن لابد من إثبات صدور الحديث قبل ذلك، ولابد من إثبات أنه صدر بداعي بيان الحكم الواقعي والذي يتمسك بأصالة الجد لإثباته فيقال أنَّ الأصل في الأحاديث هو أنها صادرة لبيان الحكم الواقعي لا لبيان شيء آخر وليس هذا هو محل البحث في المقام وإنما يُبحث هنا في إثبات أصل الصدور وأنَّ الخبر صادر ولكن لا على نحو الجزم واليقين لأنَّ المفروض أنه لا يُفيد إلا الظن فلابد من أن يكون إثبات صدوره تعبداً بمعنى إثبات صدوره بالأدلة الشرعية فيكون الدليل الدال على حجيته يُفيد إثبات أصل صدوره، وأما ظهوره وجهة الصدور فالبحث عنه في مقام آخر.

والبحث يقع في مقامين أساسين:

المقام الأول فيما يُستدل به على عدم الحجية.

المقام الثاني فيما يُستدل به على الحجية.

أما المقام الأول فقد إستُدل على عدم الحجية بالأدلة الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل:

أما الكتاب فاستدل على عدم حجية خبر الواحد بالآيات الناهية عن العمل بالظن نحو قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ ﴾ الإسراء:36 ، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡـًٔاۚ﴾ يونس:36 ، ولا إشكال في أنَّ العمل بخبر الواحد هو عمل بالظن والآيات تنهى عنه، ولا تختص هذه الآيات بخبر الواحد بل شاملة لكل ظن ومنه الخبر.

وهذا الإستدلال يواجه عدة مناقشات:

المناقشة الأولى: إنَّ هذه الآيات لا تشمل محل البحث لأنها ناظرة الى العمل بالظنون في أصول الدين التي لا إشكال في عدم جواز العمل بالظن فيها وكلامنا في إثبات الأحكام الشرعية بخبر الواحد، وأما بيان هذه الدعوى فلأن ذلك هو مقتضى سياق هذه الآيات، ثم اضافوا إنَّ هذه الآيات حتى لو لم تكن ظاهرة في أصول الدين فإنَّ المتيقن منها هو ذلك، أو قل نحن لا نحتمل العكس أي لا نحتمل أنَّ العمل بالظن جائز في أصول الدين وليس جائزاً في فروع الدين فالنهي إما أن يكون شاملًا للأصول والفروع أو يكون مختصاً بأصول الدين ولا نحتمل إختصاص النهي بفروع الدين ومن هنا يكون القدر المتيقن هو أصول الدين، فالمناقشة تدعي أنَّ الآيات ناظرة الى أصول الدين بحسب سياقها أولاً ومع التنزل يكون القدر المتيقن منها هو أصول الدين ثانياً، فلا يصح الإستدلال بها في محل الكلام.

المناقشة الثانية: أن يدعى لأنَ ّهذه الأدلة حتى وإن سلمنا أنها ناظرة الى محل الكلام بأن تكون ناهية عن العمل بالظن مطلقاً لكن ما دلَّ على حجية خبر الواحد - كما يأتي في المقام الثاني - يكون حاكماً على هذه الآيات بناءً على مسلك جعل الطريقية وتفسير الحجية باعتبار الظن علماً، فيكون مفاد أدلة حجية الخبر هو إعتباره علماً أي تنزيل الظن الحاصل من خبر الواحد منزلة العلم فتكون حاكمة على الآيات بإخراجها الخبر من موضوعها وتقول هذا علم بالإعتبار وتُقدم على تلك الآيات بالحكومة، وكأن هذه المناقشة تقول لا يضرنا شمول الآيات للخبر لأنَّ الدليل على حجية خبر الواحد سيتقدم على هذه الآيات على أساس الحكومة.

المناقشة الثالثة: لو سلّمنا شمول الآيات لمحل الكلام وتنزلنا عن حكومة أدلة حجية خبر الواحد على الآيات الناهية عن العمل بالظن فمع ذلك يمكن الإلتزام بالتخصيص لأنَّ الآيات الناهية عن العمل بالظن لا تختص بالظن الخبري بل هي مطلقة وشاملة لكل ظن بينما الدليل الدال على حجية الخبر يدل على حجية الظن الخبري بالخصوص والنسبة بينهما هي نسبة الخاص الى العام أي العموم والخصوص المطلق فأدلة حجية الخبر تُخصص الآيات الناهية عن العمل بالظن ولا يتوقف ذلك على مسلك جعل الطريقية.

لكن هذه المناقشات محل كلام، أما المناقشة الأولى التي تدعي نظر الآيات الى أصول الدين لا الى محل الكلام فأجيب عنها: بأنَّ بعض الآيات الناهية عن العمل بالظن واردة في سياق الحديث عن أصول الدين ولكن ليس كل الآيات كذلك فقوله تعالى ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ ﴾ مسبوق بقوله تعالى ﴿وَأَوۡفُوا۟ ٱلۡكَیۡلَ إِذَا كِلۡتُمۡ وَزِنُوا۟ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِیمِۚ ذَ ‌لِكَ خَیۡرࣱ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِیلࣰا﴾ ويليه قوله تعالى ﴿وَلَا تَمۡشِ فِی ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّكَ لَن تَخۡرِقَ ٱلۡأَرۡضَ وَلَن تَبۡلُغَ ٱلۡجِبَالَ طُولࣰا﴾ فالسياق كما ترى خال عن الحديث عن أصول الدين.

نعم الآية الثانية ﴿إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡـًٔاۚ﴾ يمكن أن يقال أنَّ سياقها هو الحديث عن أصول الدين بإعتبارها تصف بعض أصحاب الإعتقادات الفاسدة بأنهم لا يتبعون إلا الظن ثم تقول﴿إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡـًٔاۚ﴾ قال تعالى: ﴿قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَاۤىِٕكُم مَّن یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلۡحَقِّۚ قُلِ ٱللَّهُ یَهۡدِی لِلۡحَقِّۗ أَفَمَن یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلۡحَقِّ أَحَقُّ أَن یُتَّبَعَ أَمَّن لَّا یَهِدِّیۤ إِلَّاۤ أَن یُهۡدَىٰۖ فَمَا لَكُمۡ كَیۡفَ تَحۡكُمُونَ ‌ وَمَا یَتَّبِعُ أَكۡثَرُهُمۡ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِمَا یَفۡعَلُونَ ﴾ يونس 35-36 فيمكن أن يقال أن سياقها هو الحديث عن أصول الدين ولكن في الآية ما يُشبه التعليل وهو قوله تعالى ﴿إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡـًٔاۚ﴾ الذي يفهم منه التعليل وهو يُفيد العموم فلا يختص بسياق الآية، فالظن مطلقاً لا يُغني من الحق شيئاً، فكأنه قال هؤلاء اتبعوا الظن في أصول الدين وكل ظن لا يغني من الحق شيئاً، وهذا تطبيق لقاعدة كلية عقلائية على هذا المورد فبمقتضى هذا الذيل الذي هو بمثابة التعليل والذي يُناسب أن يكون بقاعدة كلية تنطبق على هذا المورد وغيره يمكن أن تكون شاملة لمحل الكلام.

وبالرغم من دفع المناقشة الأولى بما تقدم نقول لا يصح الإستدلال بهذه الآيات لإثبات عدم حجية خبر الواحد وذلك باعتبار أنَّها ليس في مقام تأسيس سلب الحجية عن الظن وإنما هي إرشادية ، أما الآية الأولى ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ ﴾ فبالرغم من أنَّ سياقها ليس الحديث عن أصول الدين فلا يصح الإستدلال بها في محل الكلام وذلك باعتبار أنَّ النهي فيها ليس نهياُ مولوياً وإنما هو نهي إرشادي وذلك بقرينة ذيل الآية وهو قوله تعالى ﴿إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولࣰا﴾ الظاهر في إثبات المسؤولية في مرتبة سابقة على هذا النهي وهذا لا يناسب النهي المولوي لأنَّ المسؤولية فيه متفرعة عليه لأنَّ النهي إذا كان مولوياً شرعياً تأسيسياً فهو الذي يوجب المسؤولية بينما ظاهر الآية هو أنَّ المسؤولية ثابتة في مرتبة أسبق من النهي فهناك مسؤولية للسمع وللبصر وللفؤاد وتكون الآية إرشاد لها، فلابد من حمل الآية على الإرشاد لا على النهي المولوي التأسيسي.

وأما الآية الثانية ﴿إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡـًٔاۚ﴾ فمن الواضح أنها لم ترد بصيغة النهي بخلاف الآية الأولى وإنما وردت بصيغة الإخبار فيقال إنها ظاهرة في الإرشاد الى عدم صحة الإعتماد على الظن وهو مُسلَّم حتى عند القائل بحجية خبر الواحد لأنه لا يقول أنا أعمل بالظن الحاصل من الخبر وإنما يقول أنا أعمل على أساس العلم بحجية هذا الظن فالعمل على أساس العلم لا على أساس الظن، والذي يؤيد هذا هو أنَّ الآية في مقام الإحتجاج مع المشركين ومن الواضح أنه لا معنى للمحاجة معهم والإستدلال على ذلك بحجية تعبدية شرعية فإنَّ ذلك لا يكون ملزماً لهم وإنما الملزم لهم هو القضية العقلائية الواضحة التي لا يمكن إنكارها، وهذا قرينة على أنَّ قوله تعالى ﴿إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡـًٔاۚ﴾ ليس في مقام تأسيس نفي الحجية عن الظن وإنما هو في مقام الإرشاد الى عدم صحة الإعتماد على الظن وهي قضية عقلائية مسلمة عند الجميع، فلا يُستفاد من الآية نفي الحجية عن الظن.

وأما المناقشة الثانية - دعوى الحكومة بناءً على مسلك جعل الطريقية - فجوابها أنَّ الآيات الناهية عن العمل بالظن ليست مولوية وإنما هي في مقام الإرشاد الى عدم صحة الإعتماد على الظن لأنه لا يغني من الحق شيئاً، ومسألة الحكومة إنما تطرح عندما يكون النهي مولوياً فيقال أنّ الأدلة الدالة على حجية الخبر تُنزِّل الظن منزلة العلم وإذا إعتبرته علماً فقد أخرجته من موضوع الآيات الناهية عن العمل بالظن فتكون حكومة، وأما إذا كانت الآية ترشد الى عدم صحة الإعتماد على الظن فبناءً على مسلك جعل الطريقية القائل بأنَّ معنى الحجية هو اعتبار الظن علماً فلابد أن يكون سلب الحجية عن شيء معناه عدم إعتباره علماً، فإذا دلَّ دليل على أنَّ القياس ليس حجة فيعني أنَّ الشارع لا يعتبره علماً فبناءً على هذا نقول هناك أدلة تعتبر الظن الحاصل من خبر الواحد علماً وهناك آيات تنفي الحجية عنه ولو بإطلاقها أي تنفي إعتباره علماً وهذا يعني أنَّ أدلة حجية الخبر في عرض هذه الآيات فلا حكومة بينهما وإنما بينهما تعارض، وإنما تكون الحكومة إذا قلنا أنَّ الآيات فيها نهي مولوي تأسيسي عن إتباع الظن وليست في مقام الإرشاد والدليل على حجية خبر الواحد دليل شرعي يقول إنَّ الظن الحاصل من الخبر يُعتبر علماً وهذا يعني أنه أخرجه من موضوع تلك الآيات تعبداً وهو معنى الحكومة، وأما إذا كانت الآيات لمجرد الإرشاد الى عدم إمكان الإعتماد على الظن فحينئذٍ يقع التعارض بينهما من دون حكومة.