الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/11/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية الشهرة/

تتمة الملاحظة على التقريب الثاني على الإستدلال على الحجية بمرفوعة زرارة:

إنَّ نفس إفتراض حصول الشهرة في كِلا الطرفين كما قال السائل: (.. فقلت: يا سيدي انهما معاً مشهوران مرويان مأثوران عنكم..) يناسب الشهرة الروائية لا الشهرة في الفتوى إذا لا مانع من إفتراض الشهرة في روايتين متنافيتين، لكن إفتراض ذلك في الشهرة الفتوائية صعب إذ لا يمكن إفتراض وجود شهرة على حكم مع إفتراض ذهاب المشهور الى حكم مضاد له فمثلاً إذا فُرضت الشهرة على الوجوب فلا يمكن إفتراض وجود شهرة على الإستحباب في نفس المسألة، بينما إفتراض الشهرة في الرواية لا إشكال فيه، وهذا يُشكل قرينة على أنَّ المقصود في المرفوعة هو الشهرة في الرواية لا في الفتوى.

هذا مضافاً الى ضعف المرفوعة سنداً كما هو واضح جداً فهي مرسلة ولم تذكر في كتب الحديث المعروفة.

الدليل الثالث: التمسك بأدلة حجية خبر الثقة فقد يقال بإمكان إستفادة حجية الشهرة الفتوائية منها وذلك باعتبار أنَّ ملاك الحجية في خبر الثقة هو الكشف والطريقية الى الواقع فإذا فرضنا أنَّ الشهرة الفتوائية كشفها عن الواقع إما مساوٍ لكشف خبر الثقة عن الواقع وإما أكثر منه فحينئذٍ يقال إنَّ نفس الأدلة الدالة على حجية خبر الثقة دالة على حجية الشهرة الفتوائية بل تدل على حجية كل ما يكون كاشفاً عن الواقع بدرجة أكبر من كاشفية خبر الثقة وما ذلك إلا لأنَّ الكاشفية هي تمام الملاك في جعل الحجية فلابد من الإلتزام بحجة أي مورد ثبت فيه ذلك الملاك.

فهذا الدليل يبتني على أمرين:

الأول أنَّ تمام ملاك الحجية هو الكشف.

الثاني: أنَّ الشهرة الفتوائية تكشف عن الواقع إما بمقدار مساو لكشف خبر الثقة أو أكثر منه.

ويلاحظ عليه بملاحظات:

الملاحظة الأولى: لا دليل واضح على ما ذكر في الأمر الأول فقد يكون هناك شيء آخر دخيل في الملاك وهو أغلبية المطابقة للواقع فأخبار الثقات كاشفة عن الواقع وغالبة المطابقة له فإذا فرضنا أنَّ ذلك كان دخيلاً في جعل الحجية للخبر فحينئذٍ لا يمكن التعدي غيره مما لا نعلم هل هو غالب المطابقة للواقع أم لا ومنه الشهرة الفتوائية.

وهذا الكلام إنما يتم عندما نفترض أنَّ الحجية المجعولة للخبر الثقة هي الحجية التأسيسية من قِبل الشارع وليست الحجية الإمضائية، وأما إذا كانت حجية إمضائية ناظرة الى ما جرى عليه العقلاء فلا يتم هذا الوجه لأنَّ العقلاء لا علم لهم بالمطابقة للواقع فلا تكون أغلبية المطابقة دخيلة في اعتبارهم، وأما إذا كانت الحجية تأسيسية من قِبل الشارع فيتم هذا الإفتراض ويكون هو الجواب الأول عن هذا الإستدلال.

الملاحظة الثانية: إنَّ دعوى كون الكشف والطريقية الموجودة في الشهرة الفتوائية أشد أو مساوية للكشف والظن الحاصل من خبر الثقة أول الكلام فبعد الإلتفات الى أنَّ الشهرة أمر حدسي وأنَّ خبر الواحد أمر حدسي كيف يقال أنَّ درجة الكشف في الأمر الحدسي مساوية أو أكثر من درجة الكشف في الأمر الحسي هذا غير واضح.

الملاحظة الثالثة: يحتمل إنَّ جعل الحجية لخبر الثقة من قِبل الشارع من جهة أنه لو لم يجعلها لبعض الظنون للزم إنحصار طريق تحصيل الأحكام الشرعية بالعلم والاطمئنان وهذا فيه عسر وحرج على المكلفين فكأن جعل الحجية لبعض الظنون ناشئ من شيء شبيه بالإضطرار للتسهيل على المكلفين وإلا لزم ألزام المكلفين بتحصيل العلم بالإحكام الشرعية وهذا فيه عسر وحرج فيكتفي في رفع العسر والحرجة بجعل الحجية لخبر الثقة، ومن هنا لا يمكن أن يقال للشارع أنَّ الشهرة الفتوائية مساوية في الكشف لخبر الثقة فلم لا تجعل الحجية لها؟ هذا خصوصاً مع سهولة تحصيل خبر الثقة لمعرفة الأحكام الشرعية وأما تحصيل الشهرة الفتوائية فصعب على المكلف وهي أمر يختص به أهل العلم، وعلى هذا كيف يمكن لنا أن نستكشف جعل الحجية للشهرة الفتوائية من الأدلة الدالة على حجية خبر الثقة؟

قد يقال نقضاً: ذهبتم في مورد مماثل الى ما يشبه هذا الاستدلال أي التعدي من خبر الثقة الذي دلَّ الدليل على حجيته الى الشهرة الفتوائية التي لم يدل الدليل على حجيتها بحسب الفرض أو قل هناك أدلة تفيد حجية أمارة ونحن نريد أن نستفيد منها حجية أمارة أخرى لم يدل الدليل على حجيتها، والإعتراض يقول:

أنتم صنعتم ذلك في موارد أخرى ومن ذلك قولكم أنَّ الأمارة حجة في مدلولها الإلتزامي كما هي حجة في مدلولها المطابقي وليس الدليل على حجيتها في مدلولها الإلتزامي إلا أنَّ ملاك حجيتها في مدلولها المطابقي موجود فيه فيكون حجة أيضاً، فما هو الفرق بينه وبين محل الكلام مع أنَّ ظاهر دليل الحجية إختصاصه بالمدلول المطابقي؟ ونفس هذا الكلام يدعى في المقام بين أمارتين إحداهما دلَّ الدليل على حجيتها والأخرى لم يدل الدليل على ذلك لكنَّ ملاك الحجية في الأولى موجود في الثانية إن لم يكن أكثر، فما هو الفارق بين المقامين؟

وببيان آخر: إن قلتم إنَّ تمام الملاك في مسألة الدلالة المطابقية والدلالة الإلتزامية هو الكشف فيرد عليه الإشكال المتقدم، وإن قلتم لعل الملاك ليس هو الكشف ويحتمل دخالة شيء آخر لا نعلمه في الملاك فيلزمكم عدم التعدي كلا الموردين، فالتفريق بينهما ليس وارداً.

والجواب الأول عنه: إنَّ الفرق بينهما هو وجود الدليل ففرض المسألة هو عدم وجود الدليل على الشهرة الفتوائية وإنما نريد التعدي من أمارة دلَّ الدليل على حجيتها الى أمارة لم يدل الدليل على حجيتها، بينما في باب مدلولي الأمارة فالدليل الدال على حجية الأمارة في مدلولها المطابقي هو بنفسه دال على حجيتها في مدلولها الإلتزامي، وعمدة الدليل على حجية الأمارة هو السيرة العقلائية والعقلاء لا يُفرقون بين المدلول المطابقي وبين المدلول الإلتزامي للأمارة بعد إدراكهم التلازم بينهما، وأما في محل الكلام فالدليل الدال على حجية خبر الواحد لا يدل على حجية الشهرة في الفتوى كما هو واضح، فلا يرد النقض المتقدم.

الجواب الثاني: ولو تنزلنا عن الجواب الأول وافترضنا إختصاص الدليل الدال على حجية الأمارة بمدلولها المطابقي وعدم شموله لمدلولها الإلتزامي كما يدعى ذلك ويقال أنَّ الدليل دالٌ على حجية إخبار الثقة ونقله وهذا العنوان لا يصدق على المدلول الإلتزامي الذي قد لا يلتفت إليه الناقل أصلاً، فنقول:

من الواضح جداً إنَّ ملاك الحجية ليس هو مطلق الكشف وإلا لكان كل ظن حجة لأنه كاشف وإنما الملاك هو الكشف بدرجة معينة، وهذه الدرجة من الكشف موجودة في المدلول المطابقي والالتزامي معاً ولا يمكن أن تختلف بينهما فمثلاً إذا دلَّ الدليل على أنَّ زيداً موجود في المسجد فلازمه هو أنه ليس موجوداً في المنزل والكشف فيهما بدرجة واحدة ولا يمكن إفتراض تفاوتها فيهما فيصح أن نقول أنَّ ملاك الحجية موجود في المدلول الالتزامي كما هو موجود في المدلول المطابقي، وأما في محل الكلام فلا يمكن أن نقول أنَّ درجة الكشف فيهما واحدة فهما أمارتان مختلفتان إحداهما إخبار عن حس والأخرى إخبار عن حدس ومع عدم تساوي درجة الكشف لا يمكن التعدي من خبر الثقة الى الشهرة الفتوائية.

الجواب الثالث: إنَّ الكلام المتقدم كله كان مع إفتراض أنَّ تمام الملاك هو درجة الكشف ولكن ذلك غير معلوم إذا يحتمل أن تكون غلبة المطابقة للواقع دخيلة في جعل الحجية لخبر الثقة، أو تكون مصلحة التسهيل دخيلة في ذلك، فمجرد إحراز أنَّ درجة الكشف في الأمارتين واحدة لا يكفي في إستفادة الحجية من الأدلة الدالة على حجية خبر الثقة.

وعلى هذا الأساس يندفع هذا الإشكال، والصحيح أنَّ الدليل الثالث ليس تاماً لإثبات الحجية للشهرة الفتوائية.