43/11/01
الموضوع: الظن/ حجية الشهرة/
كان الإستدلال على حجية الشهرة بالروايات والرواية الأولى هي مقبولة عمر بن حنظلة وهي تامة سنداً، والإستدلال بها يتوقف على أمرين:
الأول: أنَّ (المجمع عليه) الوارد فيها بمعنى المشهور لا بمعنى إتفاق الجميع الظاهر منها لغة.
الثاني: أن يُلتزم بعموم التعليل الوارد في ذيل الرواية لأنَّ موردها هو الشهرة الروائية فهناك روايتان استند الى كل واحدة منهما أحد الحاكمين فيؤخذ بالرواية المشهورة وتترك الرواية الشاذة النادرة فذيل الرواية (فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه) ناظر الى الشهرة الروائية ولكن بعموم التعليل يُراد تعميمه الى كل مشهور.
وقد تقدمت المناقشة في الأمر الأول، أما الأمر الثاني فقد مرَّ أنَّ في جملة التعليل إحتمالات:
الإحتمال الأول: نفي الشك والريب في المجمع عليه من الروايتين حقيقة وواقعاً فتكون جملة إخبارية تُخبر بأنَّ المجمع عليه ليس فيه ريب حقيقة، وليس المقصود من نفي الريب هو اليقين بمطابقتها للواقع وإنما المقصود هو نفي الريب في صدورها عن المعصوم عليه السلام، وفرق بين نفي الشك في صدور الرواية عن المعصوم وبين نفي الشك عن مطابقة الرواية للواقع والثاني ليس هو المقصود وإلا لكان المعنى أنَّ الرواية مطابقة للواقع قطعاً وحينئذٍ لا يقال في ما يُقابلها أنه مما فيه ريب بل يكون مما لا ريب في بطلانه لأنَّ ذلك مقتضى مطابقة الرواية المجمع عليها للواقع، وهذا الذي يُلزمنا بأن نحمل نفي الريب على معنى لا ريب في صدوره عن المعصوم وهذا لا ينافي وجود رواية شاذة في مقابلها إذ يمكن أن يصدر من المعصوم روايتان متعارضتان لسبب أو لآخر.
وذكرنا أنَّ هذا الإحتمال هو الموافق للظاهر فإنَّ الظهور الأولي لــــ (المجمع عليه) هو المتفق عليه وأنَّ الريب منفي عنه حقيقة وواقعاً وأما حمله على النفي التعبدي أو النفي العقلائي كما سيأتي فهو خلاف الظاهر.
وهذا الإحتمال وإن كان موافقاً للظاهر ولكنه لا ينفعنا في محل الكلام لعدم إمكان تطبيقه على الشهرة الفتوائية إذ لا يمكن أن يقال أنها لا ريب فيها حقيقة فمهما كانت الشهرة الفتوائية فهناك ريب فيها ولا يمكن نفيه عنها حقيقة، بل يمكن القول لا يمكن أن ننفي الريب حقيقة حتى عن الشهرة في الرواية.
الإحتمال الثاني: أن يكون المقصود نفي الريب تعبداً فهو وإن كان نافعاً لكنه خلاف الظاهر إذ يلزم منه حمل الجملة الخبرية على الإنشائية.
الإحتمال الثالث: أن يكون المراد هو الإخبار عن عدم الريب العقلائي أي عدم الريب عند العقلاء، بمعنى أنَّ المجمع عليه إتباعه والعمل به هو ديدن العقلاء وأنهم لا يتبعون الشاذ النادر.
وهذا الإحتمال خلاف الظاهر فإن الظاهر كما تقدم هو أنَّ المجمع عليه لا ريب فيه حقيقة ومطلقاً وتقييده بأنه لا ريب فيه عند العقلاء خلاف الظاهر، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى لا يثبت به المطلوب لأنَّ تقييده بــــ (عند العقلاء) يقتضي أن نتحدد بحدود ما يجري عليه العقلاء وما هو ديدنهم ولكن هذا لا يمكن تطبيقه على الشهرة في الفتوى - وإن أمكن تطبيقه على المجمع عليه في الخبر - وذلك لعدم بنائهم على إتباع المجمع عليه في الفتوى فكيف يمكن تطبيقه في محل الكلام!
الإحتمال الرابع: أن يكون المقصود هو نفي الريب النسبي بمعنى أنَّ الريب الموجود في الرواية الشاذة النادرة ليس موجوداً في الرواية المجمع عليها وذلك لأنَّ شذوذ الرواية يخلق حالة الشك والريب فيها وأما المجمع عليه فليس كذلك فلا ريب فيها في مقابل الرواية الشاذة، فكأن مفاد الرواية هو: حيث أنَّ هذه الرواية مجمع عليها فالرواية الشاذة فيها ريب لشذوذها وأما المجمع عليها فليس فيها ذلك الريب فيؤخذ بالرواية المجمع عليها، ويكون تعليلاً للعمل بالرواية المجمع عليها في مقابل الشاذة، فخلو إحدى الروايتين من الريب الموجود في الرواية المقابلة لها كافٍ في تقديمها وتكون لها مزية وهي خلوها من الريب الموجود في الرواية الشاذة.
وفيه: أولاً إنّ هذا الإحتمال مخالف للظاهر من جهة الحمل على نفي الريب النسبي لأنَّ ظاهرها كما مرَّ هو نفي الريب حقيقة، مضافاً الى عدم إمكان الإلتزام بهذا الإحتمال في نفسه لأنه يعني أنَّ كل روايتين تكون إحداهما خالية من الريب الموجود في الأخرى فهي حجة وإذا إلتزمنا بذلك فيلزم تطبيقه على جميع الموارد التي هي من هذا القبيل، فمثلاً يجب أن نلتزم بحجة خبر الكاذب لأنه لا ريب فيه بالقياس الى خبر الكذَّاب ونحو ذلك مما لا يمكن الإلتزام به فلا يصح هذا التفسير، وإنما الصحيح هو أن يقال:
إنَّ المقبولة واردة في الروايتين المتعارضتين فموردها هو ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى بمزية فيها بعد الفراغ عن الحجية فيهما والمزية هي خلوها من الشذوذ الموجود في الأخرى، لكن المفروض هو الفراغ من حجية إحدى الروايتين على الأقل وحيث أنهما متعارضتان - وهو لا يكون إلا بعد حجية كل منهما في نفسه - ولا يمكن أن تكون كلاهما حجة فإحداهما قطعاً هي الحجة، والمقبولة بصدد تحديد الحجة منهما وتقول إنَّ الحجة هي صاحبة المزية، ولكن هذا كله بعد الفراغ عن الحجية.
وثانياً إنَّ هذا لا يمكن تطبيقه على الشهرة في الفتوى لوضوح أننا لم نفرغ بعد عن الحجية فإن محل الكلام هو أنَّ الشهرة في الفتوى هل هي حجة أو ليست بحجة، فلا يمكن أن تكون المقبولة شاملة لمحل الكلام حتى تكون دالة على حجية الشهرة في الفتوى.
فتبين من ذلك عدم صحة الإستدلال بالمقبولة على حجية الشهرة لعدم تمامية كِلا الأمرين الذين يتوقف عليها الإستدلال.
الرواية الثانية: مرفوعة زرارة (قال: سألت الباقر (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال (عليه السلام): يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر..) وهي خالية من التعليل ولذا يتخلف تقريب الإستدلال بها عن تقريب الإستدلال بالمقبولة، وقد فرض في المرفوعة تعارض الحديثين وفي مقام الجواب قال الإمام عليه السلام: (خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر..) والشاذ هو الرواية الشاذة التي لا يرويها إلا البعض وليست مدونة في الكتب الحديثية المعروفة.
وقُرب الإستدلال بتقريبين:
التقريب الأول: إنَّ هذه الرواية وإن كان موردها هو الخبرين المتعارضين لكن المورد لا يخصص الوارد فمقتضى إطلاق قوله عليه السلام (خذ بما اشتهر بين أصحابك) هو وجوب الأخذ بالمشهور في كل مورد.
التقريب الثاني: ويدعى فيه أنَّ الرواية غير ناظرة الى الشهرة الروائية أساساً وأنَّ نظرها الى محل الكلام فلا حاجة الى التقريب الأول وذلك بقرينة أنَّ الترجيح بالشهرة في المرفوعة تقدم على الترجيح بالصفات فبعد أن قال: (خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر..) سأل السائل عن فرض وجود الشهرة في كلتا الروايتين (فقلت: يا سيدي انهما معاً مشهوران مرويان مأثوران عنكم، فقال (عليه السلام): خذ بقول أعدلهما عندك، وأوثقهما في نفسك..) فهنا رجح الإمام عليه السلام بالصفات والمدعى أنَّ هذا لا يناسب الشهرة في الرواية باعتبار أنَّ الشهرة في الرواية تساوق الوثوق والاطمئنان بالصدور عادة ومعه لا يمكن الترجيح بالصفات لأنه يعني تقديم الرواية الواجدة للصفات فلو كانت الشاذة هي الواجدة للصفات فهذا يعني تقديمها على الرواية المشهورة، والحال أنَّ الرواية المشهورة يُطمأن بصدورها عن المعصوم عليه السلام ومعه لابد أن يُحكم بعدم حجية الرواية المقابلة لها لا أن يُصار الى الترجيح بالصفات، فالترجيح بالصفات يناسب الشهرة في الفتوى بأن يُقال إنَّ الفتوى المشهورة تُرجح على الفتوى الشاذة النادرة فإن كانتا مشهورتين فنرجح بالصفات المذكورة وذلك لأنَّ الشهرة في الفتوى لا تساوق الوثوق والاطمئنان بالمطابقة للواقع بخلاف الشهرة في الرواية التي تساوق الإطمئنان بالصدور فلا معنى فيها للترجيح بالصفات بعد ذلك وهذا قرينة على أنَّ المنظور في الرواية هو الشهرة في الفتوى.
ويلاحظ على التقريب الأول بما ذكره الشيخ الأنصاري قده في الرسائل من عدم إمكان الإلتزام بكل ما إشتُهر سواءً كان في الرواية أو في الفتوى، ومثَّل لذلك بأمثلة، فمن ذلك لو قيل: أي أخويك تحب؟ فأجاب: أكبرهما، فلا يمكن أن يقال إنه يحب كل من هو أكبر ولو لم يكن أخاً له فهذا خلاف الظهور العرفي، والمرفوعة من هذا القبيل فإن موردها هو الشهرة من الرواية وقوله عليه السلام (خذ بما اشتهر بين أصحابك) بمعنى المشهور من الرواية لا مطلقاً.
ومن ذلك لو قيل: في أي المسجدين اُصلي؟ فأجابه صلِّ في أكبرهما، فلا يفهم منه صلِّ في كل ما هو أكبر ولو لم يكن مسجداً.
ويلاحظ على التقريب الثاني أنَّ مورد الرواية هو السؤال عن الخبرين المتعارضين وكيفية علاجه فكيف يقال إنها ناظرة الى الشهرة في الفتوى لا الى الشهرة في الرواية، هذا غريب!
ثم أنَّ السائل فرض الشهرة في كِلا الطرفين وهذا لا يُناسب الشهرة في الفتوى وهذا يُبعد أن تكون الرواية ناظرة الى الشهرة في الفتوى وينسجم مع الشهرة في الرواية فكِلا الروايتين متداولة بين الأصحاب ومدونة في الكتب مع التنافي بينهما، وأما الفتوى فلا يمكن فرض الشهرة فيهما معاً فإذا كانت هناك شهرة على الإستحباب مثلاً فلابد أن لا تكون هناك شهرة على الوجوب، فافتراض وجود الشهرة في كلا الطرفين قرينة واضحة على أنَّ الشهرة في الرواية لا في الفتوى.