الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/10/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية الشهرة/

حجية الشهرة

والمراد بها الشهرة الفتوائية أي إشتهار الفتوى عند كثير من الفقهاء في مقابل الشهرة الروائية التي تعني إشتهار الرواية واشتهار تدوينها بين الأصحاب، وما يقابل الشهرة في محل الكلام هو الفتوى الشاذة وما يقابل الشهرة في الرواية هو الرواية الشاذة التي لا يكثر تداولها وتدوينها في الكتب الحديثية المعروفة، ومن هنا يظهر وجه التعرض لهذا البحث بعد الإجماع فذلك بإعتبار أنَّ الشهرة أشبه بالإجماع الناقص فكل منهما مورده الفتوى ولكن تارة يتفق الجميع على الحكم فهو الإجماع وأخرى يتفق الأغلب عليه فهو الشهرة.

والبحث في الشهرة الفتوائية يقع في حجيتها وأما البحث في الشهرة الروائية فيقع في باب التعارض لأنَّ من المرجحات المذكورة في باب التعارض هو شهرة الرواية على قول، والبحث عن الشهرة الفتوائية ليس في جابريتها للخبر الضعيف أو عدمه فهذا محله حجية خبر الواحد فهناك يقع الكلام في أنَّ أدلة حجية الخبر هل تشمل الخبر الضعيف غير الواجد لشرائط الحجية إذا إستند إليه المشهور في تلك الفتوى أو لا تشمله، وأما في المقام فالبحث عن الشهرة الفتوائية من حيث الحجية وهل يثبت بها الحكم الشرعي كما هو الحال في الإجماع أو لا يثبت.

ومن الواضح أنَّ الكلام هنا متفرع على الفراغ عن حجية الإجماع وأما إذ لم يكن حجة فالشهرة الفتوائية لا تكون حجة بالأولوية، وأما إذا كان الإجماع حجة في إثبات الحكم الشرعي فنتكلم في أنَّ الشهرة التي هي أقل رتبة منه هل هي حجة أم لا.

ولابد من استبعاد صورة حصول اليقين أو الإطمئنان بالحكم الشرعي للفقيه نتيجة الشهرة فهذا لا إشكال في حجيته وإنما الكلام فيما إذا لم يحصل ذلك فهل يمكن إثبات الحجية التعبدية للشهرة أو لا؟

بعض المسالك المتقدمة في إثبات حجية الإجماع لا تجري في الشهرة كقاعدة اللُّطف فإنَّ موردها ما لو إتفق جميع الفقهاء على خلاف الواقع فحينئذٍ يقال لابد من أن يظهر الشارع الحق فإذا لم يظهر شيئاً فما إتفقوا عليه هو الحكم الواقعي، وأما عند إتفاق معظم الفقهاء فلا تجري هذه القاعدة خصوصاً مع افتراض وجود المخالف حتى إذا سلَّمنا جريانها في الإجماع.

وأما الملازمة فثبوتها في المقام غير واضح، فقد تُدعى بين إتفاق جميع الفقهاء وبين الحكم الشرعي وأما بين إتفاق معظم الفقهاء وبين الحكم الشرعي فهي غير واضحة.

وأما حساب الإحتمالات فتطبيقه في المقام غير واضح باعتبار وجود مضعفات للوصول الى حد الإطمئنان بثبوت الحكم الشرعي، فهناك مضعف كمي لأن الحديث عن قسم من الفقهاء فتقل بذلك القيم الإحتمالية، وهناك مضعف كيفي أيضاً وذلك إذا فرضنا وجود مخالف من الفقهاء فالشهرة لا تنافي وجود المخالف وإن كانت لا تعني وجوده أيضاً فإذا فرض وجوده خصوصاً إذا كان من المتقدمين فهذا مضعف كيفي يمنع من حصول الإطمئنان نتيجة حساب الإحتمالات، ومن هنا لا ينتج حساب الإحتمالات النتيجة المطلوبة عادة، نعم قد يُفترض في شهرة معينة حصول النتيجة المطلوبة بتطبيق قانون حساب الإحتمالات.

وأما بناءً على الحجية التعبدية فقد يُدعى ثبوتها للشهرة كما إدعي في باب الإجماع كما قيل في (لا تجتمع أمتي على خطأ) فيقال في باب الشهرة إنَّ هناك روايات يُمكن أن يُستدل بها على حجية الشهرة تعبداً، وهي:

أولاً مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة فقد ورد فيها هذا النص:

(..قال : فقال : يُنظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الّذي حَكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حُكمنا ويُترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه)[1]

ومورد الرواية تعارض الحاكمَين فيما حكما به فبعد أن فَرض السائل تنافي الحكمين انتقل الإمام عليه السلام الى مستند هذين الحكمين المتنافيين فيُنظر فيه، والإستدلال بهذا النص على حجية الشهرة يتوقف على إثبات أمرين:

الأمر الأول إثبات أنَّ المراد من (المجمع عليه) هو المشهور بالمعنى المقصود في محل الكلام وليس الإجماع المتقدم بحثه، أو قل المراد منه الإجماع النسبي لا الإجماع الحقيقي، ويراد إثبات هذه الدعوى بقرينتين:

القرينة الأولى: إنَّ الرواية جعلت المجمع عليه في قبال الشاذ لأنها تقول (المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حُكمنا ويترك الشاذ) فالشاذ في مقابل المجمع عليه، والمجمع عليه بالمعنى المتقدم ليس في قباله شيء فلابد أن لا يُراد به ذلك وإنما المراد المجمع عليه النسبي الذي لا يُنافيه وجود الشاذ في مقابله.

القرينة الثانية: قوله عليه السلام (ويُترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك) وهذه إشارة الى أنَّ المقصود بالمجمع عليه هو المشهور فإنَّ الشاذ الذي ليس بمشهور يقابله المشهور.

الأمر الثاني - وهو المهم - أن يُقال إنَّ الرواية وإن كان موردها الشهرة الروائية لقوله عليه السلام (ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا) أي يُنظر الى مستندهما وتقدم الرواية المجمع عليها عن أصحابك على الرواية الشاذة لكن يمكن الإستفادة من التعليل لتعميم الحكم لكل شهرة ولو كانت في الفتوى وهو من قبيل (لا تأكل الرمان لأنه حامض) الذي لا يختص بخصوص الرمان، وفي المقام عُلل تقديم الرواية المشهورة على الشاذة بقوله عليه السلام (فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه) وحيث أنَّ المجمع عليه في المقدمة الأولى يعني المشهور فكأن الرواية قالت (إنَّ المشهور لا ريب فيه) أي مطلق المشهور لا خصوص المشهور من الروايات.

فإذا تمت هاتان المقدمتان فيتم الإستدلال على حجية الشهرة، ولكن كِلا الأمرين فيه مناقشة:

أما الأمر الأول فباعتبار أنَّ قرينة المقابلة بين الشاذ وبين المجمع عليه ودعوى أنَّ المراد منه المجمع عليه هو النسبي لا الحقيقي فغير تامة وذلك لأنّ العبارة ذُكرت في الشهرة الروائية فتلحظ الروايتين المتعارضتين وتقول أنَّ الرواية المجمع عليها تتقدم على الرواية الشاذة والإجماع في الرواية لا ينافي وجود شاذ في مقابله ففرق بين المجمع عليه في الفتوى وبين المجمع عليه في الرواية فالرواية التي أجمعوا على روايتها وتدوينها والإستدلال بها لا ينافيها وجود رواية شاذة في مقابلها، وأما المجمع عليه في باب الفتوى فينافيه وجود شاذ في مقابله، والرواية ناظرة الى المجمع عليه في باب الرواية (يُنظر...المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به) فالقرينة الأولى ليست تامة.

وأما القرينة الثانية وهي أنّ الشاذ في قبال المشهور (ويُترك الشاذ الذي ليس بمشهور) فيكون المجمع عليه الذي ذكره أولاً هو بمعنى المشهور، ولكنه غير واضح إذ يمكن تفسير الشهرة في المقام بالمعنى اللغوي وهو بمعنى الوضوح والبيان الكامل، هذه المناقشة الأولى في الإستدلال بهذه الرواية.

والمناقشة الثانية فيها هو أنَّ الوارد في ذيل الرواية هو نفي الريب عن المجمع عليه (فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه) فما هو المقصود به هنا إحتمالات:

الإحتمال الأول: أن يراد به نفي الريب حقيقة، وهذا الإحتمال إن تم فيثبت به الحجية بلا إشكال لأنه يساوق الجزم واليقين، لكنه لا ينفعنا في المقام باعتبار أنَّ الرواية لا يمكن تطبيقها على الشهرة في الرواية لأنها مهما بلغت فيها شك وريب لأنها لا تعني إلا أنهم أجمعوا على روايتها وتدوينها والإستدلال وهذا لا ينفي الشك، فهذا الإحتمال وإن كان موافقاً للظاهر ولكن لا يثبت به المطلوب.

الإحتمال الثاني: أن يراد به نفي الريب تعبداً والذي يساوق جعل الحجية للمشهور فالمقصود هو أنَّ الشارع يعتبره لا ريب فيه وإن كان فيه ريب حقيقة، وهذا يُثبت الحجية للشهرة وهو وإن كان في باب الرواية إلا أنَّ تعميها لمحل الكلام يكون بعموم التعليل فيثبت المطلوب وهو أنَّ المشهور في باب الفتوى لا ريب فيه، ويثبت بذلك حجية كل مشهور في الرواية وفي الفتوى، لكنه خلاف الظاهر من جهات:

الجهة الأولى إنَّ هذا الإحتمال يقتضي إما حمل الجملة على الإنشاء وأنها في مقام جعل الحجية للشهرة وإما إبقاؤها خبرية كما هو ظاهرها لكن المقصود منها هو نفي الريب تعبداً والذي مرجعه الى جعل الحجية وكلٌ منهما خلاف الظاهر، أما كونها خبرية وليست إنشائية فواضح وأما نفي الريب تعبداً فسيتضح في الجهة الثانية.

الجهة الثانية وهي مسألة كلية، قالوا إنَّ التعليل الذي يرد في روايات الأئمة عليهم السلام لابد أن يكون بأمر عرفي ارتكازي لأنَّ الغرض منه هو التوضيح وإقناع الطرف المقابل وإلا فالشارع غير ملزم بالتعليل، وإقناع المقابل لا يكون إلا بأمر عرفي ارتكازي يفهمه، ومن هنا قالوا لا معنى للتعليل بأمر تعبدي صرف، ومن هنا يكون حمل العبارة على الإحتمال الثاني خلاف الظاهر.


[1] وسائل الشيعة، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي الباب9 الحديث1، ج27 ص106.