43/10/20
الموضوع: الظن/ حجية الإجماع / المقام الثاني
كان الكلام في كشف الإجماع عن الدليل المعتبر على الحكم الشرعي، وذكرنا له تطبيقان الأول تطبيقه للكشف عن صحة المدرك الذي إعتمد عليه المجمعون ويتحقق هذا فيما لو اختلفنا مع المجمعين في فهم النص واستفادة الحكم الشرعي منه فيقال إنَّ إجماعهم واتفاقهم يوجب الوثوق والاطمئنان بصحة المدرك وأنَّ فهمهم هو الفهم الصحيح.
وقلنا أنَّ هذا التطبيق غير صحيح إلا في حالة إعتمادهم على إستظهار حسي واضح جداً بنحو لا يدخل فيه إعمال النظر والدقة العقلية غير المطلوبة في فهم النصوص فيكون هذا الإستظهار أقرب الى الحس منه الى الحدس، فقد يؤثر ذلك على فهمنا لهذا النص، بل قد يوجب ذلك تشكيكنا في فهمنا فيوجب التوقف في المسألة على الأقل.
التطبيق الثاني: أن تطبق هذه الطريقة لاستكشاف أصل وجود المدرك ويكون ذلك عندما يتفق الفقهاء على شيء وليس له مدرك واضح فيما وصل إلينا فنستكشف وجود مدرك معتبر لهؤلاء المجمعين، وهذا ما طبقه السيد الشهيد قده على فقهاء عصر الغيبة المتقدمين والذين تفصلهم عن الأئمة عليهم السلام طبقة واحدة وهي طبقة أصحاب الأئمة عليهم السلام كالشيخ الكليني وأمثاله، فإذا إتفقوا على شيء فيقال أنَّ هذا الإتفاق يكون كاشفاً عن وجود دليل على الحكم الشرعي وذلك بعد استبعاد إحتمالين:
الأول: أنهم أفتَوا من دون دليل.
الثاني: أنهم إشتبهوا في تطبيق قاعدة على مورد ما فحكموا بحكمٍ غفلة لأنَّ القاعدة لا تنتج ذلك الحكم، وهذا قد يُحتمل في فقيه واحد ولكنه مستبعد في حق الجميع هؤلاء الفقهاء خصوصاً إذا لاحظنا أنهم طبقوا تلك القاعدة على مورد آخر تطبيقاً صحيحاً فلابد أنهم اعتمدوا على مدرك معتبر لم يصل إلينا.
وهذا ما يثبت أيضاً بحساب الإحتمالات فيقال في فتوى فقيه واحد يُحتمل بنسبة ما أنَّها غير مستندة الى دليل أو هي مستندة الى دليل غير معتبر ولكن إذا انضم لها فتوى فقيه آخر تضاءلت نسبة ذلك الإحتمال، وهكذا كلما ضممنا فتوى أخرى ضعف هذا الإحتمال حتى نصل الإطمئنان والى قناعة كاملة في أنهم اعتمدوا على مدرك وإن لم نتمكن من تشخيصه.
وهذا المدرك يتردد بين شيئين:
1. أن يكون المدرك رواية وصلت إليهم ولم تصل إلينا فاتفقوا على الحكم إستناداً إليها، فنستكشف بحساب الإحتمالات إعتمادهم على رواية محددة إستندوا إليها.
ولكن هذا الإحتمال مُستبعد إذ ما هو الداعي لعدم ذكرهم لهذه الرواية في كتبهم الإستدلالية والحديثية وهم أصحاب الحديث الحريصون جداً على ذكر الروايات وجمعها ونقلها إلينا، وقد ذكروا الروايات الضعيفة التي فيها تشكيك سنداً أو دلالة في الكتب الحديثية على الأقل وإن لم يعتمدوا عليها، فعدم الإشارة من قِبل هؤلاء الفقهاء يكون غريباً.
وكذا الكلام إذا فرض أنَّ المدرك هو قاعدة من القواعد العامة، ولكن الحكم الشرعي كان مخالفاً للقواعد التي وصلت إلينا فإحتمال أنهم اعتمدوا على قاعدة لم تصل إلينا بعيد أيضاً لأنهم نقلوا إلينا قواعد كثيرة، فلماذا لم ينقلوا هذه القاعدة!
هذا لا يمكن تفسيره إلا على أساس وجود مدرك ودليل خرجوا به عن مقتضى هذه القواعد ولكنه لا يتمثل برواية أو قاعدة محددة اعتمدوا عليها.
2. أن يكون المدرك هو الإرتكاز المتشرعي أو سيرة المتشرعة المتلقاة من الطبقة السابقة عليهم والتي تُمثل الطبقة الفاصلة بينهم وبين الأئمة عليهم السلام، فاعتمدوا عليه في الخروج عن مقتضى القواعد واتفاقهم على هذا الحكم الشرعي، وهذا التفسير يُبرر عدم وصول دليل على ذلك الحكم الشرعي.
نعم حصول الجزم واليقين أو الإطمئنان له شروط يجب تحققها:
الأول: أن يكون هذا الإجماع لعلمائنا المتقدمين ولا يكفي فيه إجماع المتأخرين لأنَّ المراد هو إستكشاف وجود إرتكاز وسيرة في الطبقة المتقدمة عليهم ومتلقاة منهم ومعاصرة للأئمة عليهم السلام وهذا إنما يتم في الطبقة المتقدمة من علمائنا.
الثاني: أن لا يُعلم إستناد المجمعين الى مدرك مُعيَّن، بل لا يحتمل ذلك إحتمالاً عقلائياً معتداً به، لا مطلقاً، فلا ينبغي المسارعة الى طرح الإجماع لمجرد إحتمال المدرك، كما لو وجِدت رواية ضعيفة يُحتمل أن تكون مدركاً لحكمهم، فهذا الإحتمال غير معتد به، وإنما نشترط ذلك لابتناء هذه الطريقة على إستكشاف وجود الإرتكاز المتشرعي والسيرة من اتفاق هؤلاء العلماء في الطبقة المتقدمة عليهم وتكون هي المدرك لهم لا على مدرك معلوم أو محتمل عندنا وإلا كانت وظيفتنا هي النظر فيه فإذا وافقناهم على فهمهم فنُفتي بذلك ويكون المدرك هو هذه الرواية وليس إجماعهم ، وإن لم نوافقهم على فهمهم فلا يمكن أن نفتي بما إتفقوا عليه لأننا نرى ضعف هذه الرواية سنداً أو دلالة.
نعم يأتي هنا ما تقدم في التطبيق الأول من أنَّ استظهارهم قد يكون مؤثراً في فهمنا واستظهارنا لأنَّ الإختلاف معهم هنا يكون في قضية أشبه بالحسية مما يوجب التشكيك في استظهارنا.
الثالث: أن لا تكون هناك قرائن على الخلاف، فقد توجد قرائن في لحن الكلام في الروايات ومن خلال التفاتات السائل وتصريحه بأمور يفهم منها عدم وجود إرتكاز عند أصحاب الأئمة وعدم وجود سيرة من قبل المتشرعة، بل لعل الإرتكاز الموجود على خلاف ذلك، فهذه قرائن معاكسة تمنع من استكشاف وجود مدرك يتمثل بارتكاز أو سيرة متشرعية عند طبقة أصحاب الأئمة عليهم السلام.
الرابع: أن تكون المسألة من المسائل التي يتوقف معرفة حكمها على مراجعة الشارع، وبعبارة أوضح أن لا تكون المسألة المجمع عليها مسألة عقلية أو عقلائية يستقلون بالحكم فيها وإنما تكون مسألة شرعية محضة لا يُترقب معرفة حكمها إلا من قِبل الشارع ولو بواسطة الإرتكاز أو سيرة المتشرعة، فلإثبات ذلك لابد من إفتراض عدم وجود مدرك آخر غير الشارع، وهذا في واقعه يدخل في الشرط الثاني المتقدم.
هذه أهم الشروط ولعل هناك شروط معتبرة غيرها في كشف الإجماع عن وجود دليل معتبر على الحكم الشرعي، ومعظم هذه الأمور أشار إليها المحقق النائيني في تقريرات الكاظمي (فوائد الأصول) ج3 ص149.
وهناك إشكالات ذُكرت على جعل الإجماع دليلاً على الحكم الشرعي:
الإشكال الأول: إنَّ الفقهاء المجمعين ليسوا معاصرين للمعصومين عليهم السلام فكيف يمكن إستفادة رأي المعصوم من اتفاقهم؟
وجوابه: لا نريد إستكشاف رأي المعصوم من إتفاق الفقهاء مباشرةً وإنما المقصود هو إستكشاف رأيه من خلال الإرتكاز أو سيرة المتشرعة، فاتفاق الفقهاء يكشف عن إرتكاز المتشرعة في جيل اصحاب الأئمة عليهم السلام وهذا الإرتكاز في قضية شرعية لابد أن يكون مأخوذاً من المعصوم عليه السلام كما هو الحال في كل سيرة كاشفة عن الدليل كشفاً إنياً.