الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/10/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية الإجماع / المقام الثاني

تبين مما تقدم أن كشف الإجماع عن الحكم الشرعي على تقدير تحققه إنما يكون قائماً على أساس حساب الإحتمالات لا على أساس العقل العملي المعبر عنه بقاعدة اللُّطف ولا على أساس العقل النظري المعبر عنه بالملازمة، هذا هو المقام الأول

المقام الثاني في كشف الإجماع عن الدليل المعتبر على الحكم الشرعي:

وهنا أيضاً نفترض تحقق الإجماع الكاشف عن الدليل المعتبر، ولكن لا مجال هنا للتمسك بالعقل العملي - قاعدة اللُّطف - وذلك باعتبار أنَّ القاعدة لا تحكم بلزوم وجود دليل معتبر إستند إليه المجمعون وإنما تقول إنَّ الحكم المجمع عليه إذا كان مخالفاً للواقع فلابد من إظهار الواقع بأي نحو كان، وكذلك لا يمكن إثبات الكشف إستناداً الى الدليل التعبدي وذلك لعدم وجود دليل تعبدي يقول لابد أن يستند المجمعون الى دليل معتبر حتى ننتقل منه الى إثبات الحكم الشرعي.

فالشيء الوحيد الذي يمكن الإستناد إليه هنا هو إدراك العقل النظري - أي الملازمة - وذلك بأن تُدعى الملازمة بين الإجماع على الحكم الشرعي وبين وجود دليل معتبر على ذلك الحكم، وحينئذٍ يرد تمام الكلام السابق في الملازمة من أنها تارة تكون ملازمة عقلية وأخرى تدعى عادية وثالثة تدعى إتفاقية، وترد فيه الملاحظة السابقة من أنَّ هذا التقسيم ليس لذات الملازمة فإنها عقلية دائماً لأنها تعني إستحالة الإنفكاك وهذا ما يحكم به العقل، بل التقسيم باعتبار طرف الملازمة فتارة يكون الإقتران بين شيئين في كل الظروف ومن دون إشتراط شيء وهذا يعني ثبوت الملازمة بين ذات الملزوم وذات اللازم فهذه ملازمة عقلية، وأخرى يكون التلازم بين شيئين في ظل شروط معينة فعلى تقدير تحققها تكون الملازمة عقلية، وكذا الكلام في الإتفاقية.

وكذا يأتي ما تقدم من أنَّ حصول اليقين بوجود دليل معتبر بإتفاق الفقهاء ليس قائماً على أساس الملازمة العقلية وإنما هو قائم على أساس حساب الإحتمالات بالبيان المتقدم.

وبعبارة أخرى: لا توجد ملازمة عقلية بين إجماع الفقهاء وبين وجود دليل شرعي معتبر يدل على الحكم المجمع عليه، وإنما الكشف يتم على أساس حساب الإحتمالات فيقال: أنَّ مفردة واحدة من مفردات الإجماع يكون إحتمال إستناد فقيه واحد فيها الى دليل معتبر في مقابل إحتمال استناده الى دليل غير معتبر وإن إفترضنا أنهما متساويان ولكن إذا إنضم إليه فقيه آخر يفتي بنفس الفتوى ويحتمل فيه ما إحتمل في الأول إلا أنَّه يقوى إحتمال استنادهما معا الى دليل معتبر ويضعف إحتمال استنادهما الى دليل غير معتبر ، وهكذا كلما ضممنا إليهم فقيه يتفق معهم في الفتوى تضاءل إحتمال إستناد الجميع الى دليل غير معتبر وقوي إحتمال إستناد الجميع الى دليل معتبر.

ويواجه أيضاً نفس المشاكل السابقة في طريق الوصول الى العلم فهناك مُضعفات تمنع أحياناً من الوصول الى العلم توجب بطء الوصول الى ذلك وأحياناً أخرى، بخلاف الخبر الحسي الذي يوجب سرعة حصول ذلك.

وهذا الكشف عن الدليل المعتبر القائم على أساس حساب الإحتمالات إذا لاحظنا فيه فتاوى جميع الفقهاء بحسب الفرض يحصل الإطمئنان باستنادهم الى دليل معتبر ويكون إحتمال استنادهم الى دليل غير معتبر ضعيف جداً، هذا مع الأخذ بنظر الإعتبار إختلاف الفقهاء في أزمانهم ومتبنياتهم الفقهية الرجالية والاستظهارية وعلى الرغم من ذلك يتفقون على حكم شرعي واحد فيضعف جداً إحتمال استنادهم جميعاً الى دليل غير معتبر ويقوى احتمال استنادهم أو بعضهم على الأقل الى دليل معتبر.

ولهذا الكشف تطبيقان - الأول غير مقبول والثاني مقبول -:

التطبيق الأول: تطبيقه لإثبات صلاحية الدليل في إجماع يكون مدركه موجوداً، بمعنى أننا نريد إثبات صلاحية هذا الدليل في الكشف عن الحكم الشرعي فيقال أنَّ الفقهاء إتفقوا على الحكم الشرعي إستناداً الى هذا الدليل فهو صالح لأن يُستدل به على الحكم الشرعي وإن لم يكن تاماً بنظرنا، فنقول هذا الدليل وإن كان واصلاً إلينا ولكن الفقهاء على كثرتهم وإختلاف مبانيهم إستفادوا منه الفتوى المعينة، فقد يخطئ فقيه واحد في الإستفادة ولكن أن يخطئ فقيهان أو ثلاثة فهو أضعف وأبعد إحتمالاً ، وهكذا يضعف إحتمال الخطأ في الفهم والاستنباط لهؤلاء الفقهاء الى أن يحصل الإطمئنان بأنهم لم يخطؤوا جميعاً ، بل لو حصل لدينا فهم مخالف لفهمهم لحصل لنا إطمئنان بخطئنا في فهمنا لكثرتهم ولقربهم من عصر النص وسلامة لغتهم ونحو ذلك.

ويلاحظ عليه: أنَّ هذا أمر حدسي لأنه يدور حول الإستظهار من الدليل، مضافاً الى أنَّ إشتباه الفقهاء يحتمل أن يكون ناشئاً من اشتباهات متعددة كما هو شأن القضايا الحدسية ولا يتعين أن يكون الإشتباه في شيء واحد حتى يُستبعد حصول ذلك وهذا ما يُضعف الوصول الى النتيجة.

ويضاف الى ذلك إحتمال تأثير بعض الفقهاء في البعض الآخر فإنَّ الفقهاء يراجعون آراء المتقدمين عليهم ويجلونها ويحترمونها فقد يقعون تحت تأثير فقيه سابق خصوصاً إذا كان شخصية كبيرةً وبارزةً وتسنم المرجعية العلمية لمدة طويلة ونحو ذلك، فاتفاق المتأخرين مع المتقدمين في الفتوى لا يوجب حصول الإطمئنان في صحة المدرك الذي إستندوا إليه.

نعم إذا إستفدنا أنَّ إستظهارات الفقهاء كانت قريبة من الحس بنحو تخلو من الملاحظات المتقدمة ومع ذلك لم نفهم من الدليل ما فهموه منه فيمكن هنا أن نقول أنَّ هذا الإتفاق من قبل هؤلاء الفقهاء يجعلنا نُشكك في فهمنا للنص، بل قد نطمئن بصحة فهمهم واستظهارهم وبالتالي صحة هذا المدرك لإثبات هذا الحكم الشرعي.

وعلى هذا الأساس نقول: من المتعارف سقوط الإجماع المدركي عن الإعتبار، بل قالوا إنَّ إحتمال المدركية يوجب سقوط الإجماع عن الإعتبار، ولكن الظاهر أنَّ هذا ليس صحيحاً على إطلاقه كما تبين فقد يكون الإجماع مدركياً ويكون المدرك بين أيدينا لكن قد نستكشف صلاحية هذا المدرك لإثبات الحكم الذي إتفقوا عليه ولكن في حالات معينة كالاستظهار من الدليل الذي لا يبتني على إعمال صناعة، فقد نُفتي بما أفتوا به أو نحتاط على الأقل ولا نفتي بما نفهمه نحن.

التطبيق الثاني: أن نستكشف بالطريقة السابقة أصل وجود مدرك لهذا الحكم الشرعي مع عدم وجوده بأيدينا لا أن نستكشف صلاحيته لإثبات الحكم الشرعي، وهذا المدرك أعم من أن يكون مدركاً خاصاً أو عاماً كالقواعد العامة.

وهذا التطبيق طبقه السيد الشهيد قده على إجماع الفقهاء في عصر الغيبة كالشيخ الكليني والشيخ الصدوق قُدس سرهما وأمثالهما، فإذا فرضنا أنهم إتفقوا على حكم شرعي ولم يكن بأيدنا ما يقتضي تلك الفتوى من دليل خاص أو قاعدة عامة بل يكون ما ذهبوا إليه على خلاف القواعد فلابد من أنهم إستندوا الى مدرك خاص لإثبات هذا الحكم الشرعي، هذا مع وضوح استبعاد عدم استنادهم في فتاواهم الى مستند بل لا يُحتمل ذلك حتى في فقيه واحد من فقهائنا رضوان الله عليهم.