43/10/15
الموضوع: الظن/ حجية الإجماع / مباني حجية اللإجماع
الإشكال الثاني على تطبيق قاعدة اللُّطف في محل الكلام هو ما قيل من فوات المصالح على تقدير عدم إظهار الحق من قِبل الشارع عند فرض إجماع الفقهاء على حكم مخالف للواقع، فما هو المراد من المصالح الفائتة ؟
هل المقصود بها المصالح والمفاسد التكوينية القائمة في متعلقات الأحكام والتي تمثل عللاً لجعل الحكم الشرعي بناءً على ما نؤمن به من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، فإذا فرضنا أنَّ في الخمر مفسدة الإسكار فيجعل الشارع الحرمة على طبق هذا الملاك التكويني، وكذا إذا فرضنا إجماع الفقهاء على حلية أكل لحم الأرنب وفرضنا أنَّ حكمه الواقعي هو الحرمة فسكوت الشارع وعدم تدخله سوف يُوقع العباد في مفسدة أكل لحم الأرنب الواقعية القائمة فيه.
أو أنَّ المقصود بها المصالح التي تقع في طول الحكم الشرعي وتتفرع عليه ولا وجود لها قبل الحكم الشرعي، وهي تحقق العبودية والتقرب والإمتثال مما يترتب على الإنقياد للحكم الشرعي ويتفرع عليه، فهل المراد بالمصالح النوع الأول أم الثاني؟
فإن اُريد الأول فجوابه لا دليل واضح على لزوم حفظ هذه المصالح التكوينية والملاكات الواقعية بنحو يجب على الشارع إيصال العباد إليها بنفسه فيتدخل حتى في صورة فواتها بسبب اجتهادهم الذي أخطأوا فيه الواقع، نعم الشارع يريد وصول العباد الى هذه المصالح والملاكات الواقعية لكن ذلك عن طريق الحكم الشرعي، وقد حَكَمَ بذلك ويريد بأحكامه إيصالهم الى تلك المصالح وأن يُجنبهم المفاسد الواقعية، وأما مع إشتباه العباد في تشخيص تلك الأحكام فلا دليل على لزوم تدخله لحفظها على العباد.
وعلى فرض تدخل الشارع بإلقاء الخلاف بين الفقهاء أو إظهار الحق على لسان أحدهم على الأقل ولكنه حينئذٍ لم يوصل العباد الى المصالح الواقعية بل فاتت على جملة منهم، فلا معنى للقول بوجوب تدخل الشارع لحفظ هذه المصالح على العباد.
وإن اُريد الثاني فجوابه إنَّ هذه المصالح - العبودية والتقرب والإمتثال - لا تفوت بترك تدخل الشارع وذلك لوجود حكم الظاهري في مورد مخالفة الحكم الواقعي ولا فرق بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية في أنها جميعاً أحكام إلهية شرعية يمكن طاعتها والتعبد بها، فلا تفوت هذه المصالح بترك تدخل الشارع.
هذا ما قيل في مقام الإشكال على تطبيق قاعدة اللُّطف في محل الكلام، وعليه لا يمكن الإستدلال بها لإثبات كشف الإجماع عن الحكم الشرعي الإلهي الواقعي لهذين الإشكالين والعمدة هو الأول.
المبنى الثالث: وهو الملازمة بين إتفاق جميع الفقهاء وبين رأي المعصوم عليه السلام، وهذه الملازمة تارة تكون عقلية وأخرى تكون عادية وثالثة تكون إتفاقية، والمقصود بالملازمة العقلية ما يستحيل فيها الإنفكاك بين اللازم وبين الملزوم من قبيل الملازمة بين التواتر وبين صحة الخبر، والملازمة بين وجود الجسم في مكان وبين عدم وجوده في مكان آخر.
والملازمة العادية هي التي تكون بين شيئين في معظم الحالات وبحسب العادة ولكنها قابلة للانفكاك فيتحقق حينئذٍ الملزوم من دون اللازم وذلك من قبيل الملازمة بين السكن في بعض المناطق الحارة وبين الإصابة بمرض معين فقد تتخلف في بعض الأشخاص.
والملازمة الإتفاقية هي التي تكون بين شيئين إتفاقاً لا غالباً ولا دائماً، ويمثل لها بالملازمة بين استفاضة الخبر وبين صدقه فقد تتحقق وقد تنفك.
والخلاصة أنَّ التلازم قد يكون دائمياً بنحو يستحيل الإنفكاك بين اللازم والملزوم وقد يكون غالبياً تقتضيه العادة وطبع القضية مع إمكان الإنفكاك وقد يكون اتفاقياً لا دائمياً ولا غالبياً ، وعليه قالوا:
إنَّ الدليل على كشف الإجماع عن الحكم الشرعي هو الملازمة بينهما، وقد تُدعى بينهما الملازمة العقلية أو العادية أو الإتفاقية، وهذا من قبيل الإستدلال على حجية التواتر بالملازمة بينه وبين صحة الخبر، وكذا الملازمة بين إتفاق المرؤوسين على شيء وبين رأي رئيسهم.
ويلاحظ على هذا المبنى بملاحظتين:
الأولى: أنَّ التقسيم الثلاثي للملازمة فيه إشكال فني والصحيح أنَّ الملازمة عقلية دائماً لأنها تعني إستحالة الإنفكاك والحاكم بذلك هو العقل فتكون عقلية دائماً، بل حتى الملازمة المتقدم ذكرها بين السكن في المناطق الحارة وبين الإصابة بالمرض هي ملازمة عقلية وتعني إستحالة الإنفكاك غاية الأمر أنَّ التلازم بين شيئين تارة يكون تلازماً ذاتياً أي بين ذاتي الشيئين فيكون تلازماً مطلقاً وعلى جميع التقادير من قبيل التلازم بين وجود الجسم في مكان وعدم وجوده في مكان آخر، وأخرى يكون تلازماً يبين شيئين ولكن بشروط معينة إذا توفرت حصل التلازم وهو تلازم عقلي أيضاً يستحيل فيه إنفكاك اللازم عن الملازم بعد توفر تلك الشروط، وكذا الكلام في الملازمة الإتفاقية فهي تعني حصول التلازم في ظروف قد يتفق حصولها فعلى تقدير إتفاق حصولها تكون الملازمة بينهما عقلية يستحيل معها الإنفكاك، فالملازمة عقلية دائماً والتقسيم غير صحيح.
نعم يمكن تقسيمها كذلك بلحاظ مصب الملازمة فيقال أنَّ الإقتران بين الشيئين تارة يكون دائمياً ومن دون شرط أو ظرف فيستحيل فيها التخلف، وأخرى يكون التلازم تحت ظروف معينة غالبية أو إتفاقية، فيصح ذلك بلحاظ مصب الملازمة لا بلحاظ نفس الملازمة.
الثانية: ما ذكره السيد الشهيد قده من أنَّ الصحيح في المقام هو عدم وجود ملازمة عقلية في جميع هذه الموارد حتى في مورد التواتر، فصحيح أنَّ إخبار عدد كبير من الناس بشيء كموت زيد يورث القطع بموته لكنه ليس قائماً على أساس الملازمة العقلية بين إخبار عدد كبير من الناس وبين صدق الخبر وتحققه في الواقع، وذلك لأنَّ التواتر عبارة عن إخبار زيد وإخبار عمرو وإخبار بكر.. الخ، وكل خبر منها لا يلازم تحقق المخبَر به وصدقه لوضوح تساوي نسبة مطابقة الخبر للواقع مع نسبة عدم مطابقته له، وكذا الكلام في الخبر الثاني والثالث..، وإضافة إخبارات أخرى لا يخلق الملازمة بين الإخبار عن موت زيد وبين تحققه خارجاً، نعم هذه الإخبارات المتكثرة تورث القطع بصحة الخبر وتحقق المخبَر به خارجاً ولكن بإعتبار حساب الإحتمالات، والذي طبقه على التواتر والإجماع ويمكن تطبيقه على كثير من الموارد منها معرفة رأي الرئيس من إتفاق المرؤوسين.
وبيان ذلك في التواتر إنَّ كل مفردة من مفردات التواتر يُحتمل فيها عدم المطابقة للواقع، فإذا افترضنا تساوي احتمال المطابقة مع إحتمال عدم المطابقة في الخبر الأول، ثم ضممنا إليه الخبر الثاني بنفس النسبة بين إحتمال المطابقة وعدمها ولكن عند الجمع بينهما يتضاءل إحتمال عدم المطابقة الى الربع لأن إحتمال عدم المطابقة رياضياً هو حاصل ضرب إحتمال عدم المطابقة في الخبر الأول مع إحتمال عدم المطابقة في الخبر الثاني أي:
50% x 50% = 25% وهي نسبة إحتمال عدم المطابقة في مجموع الخبرين.
فإذا أضفنا لها خبراً ثالثاً ورابعاً وخامساً...الى أن يصل الى حد التواتر فسوف يتضاءل إحتمال عدم المطابقة حتى يصل الى درجة قريبة من الصفر، وكلما تضاءل إحتمال عدم المطابقة كلما إرتفع إحتمال المطابقة حتى يصل الى درجة الإطمئنان القريبة من القطع، وهذا كله بحساب الإحتمالات لا بالملازمة.
ثم قال ونحن نكتفي هنا بالوجدان الذي يشهد بصحة هذا التحليل، وأما إقامة البرهان على ذلك فذكره في كتابه (الأسس المنطقية للإستقراء).
وهذه الفكرة طبقها قده على التواتر وقال يمكن تطبيقها على الإجماع مع تغيير في العبارات بأن نقول:
إنَّ المفردة الواحدة للإجماع هي فتوى فقيه وهي تحتمل الإصابة وتحتمل الخطأ ولنفرض أنَّ نسبة إحتمال الخطأ هي 50% عادة، فإذا ضممنا لهذه الفتوى فتوى فقيه آخر في نفس الحكم الشرعي وبنفس النسبة المتقدمة فسوف يتضاءل إحتمال الخطأ في فتوى فقيهين، وهكذا كلما ضممنا فتاوى فقهاء آخرين حتى نصل الى الإجماع فسوف يتضاءل إحتمال الخطأ الى درجة الصفر تقريباً ويزداد إحتمال الإصابة الى درجة الإطمئنان أو القطع تقريباً.
هذا مع وضوح أنَّ الوصول الى النتيجة في باب التواتر يكون أسرع من الوصول الى النتيجة في باب الإجماع لأسباب موضوعية يأتي ذكرها.