43/10/13
الموضوع: الظن/ حجية الإجماع/
من الواضح أنَّ الإجماع جُعِل من الأدلة الأربعة التي يُستدل بها على الحكم الشرعي بالإضافة الى الكتاب والسنة والعقل، والكلام يقع في وجه حجية الإجماع وكيف يكون دليلاً وكاشفاً عن الحكم الشرعي على حدِ دلالة الكتاب والسنة عليه.
وهذا الكشف عن الحكم الشرعي تارة يكون بشكل مباشر وبلا توسط شيء وأخرى يكون كاشفاً عن الحكم الشرعي بتوسط شيء ، والمقصود به توسط الدليل على الحكم الشرعي، بمعنى كشفُ الإجماع عن الدليل أولاً وكشف الدليل عن الحكم الشرعي ثانياً.
والفرق بينهما أنَّ الإجماع في الحالة الأولى يكون بنفسه دليلاً على الحكم الشرعي بينما يكون الحكم الشرعي في الحالة الثانية ثابتاً بالدليل المستكشف من الإجماع.
والإجماع تارة يكون مُحصَّلاً وأخرى يكون منقولاً فالكلام في مقامين:
الأول في الإجماع المحصَّل.
الثاني في الجماع المنقول.
والمقصود من الإجماع المحصَّل هو ما يُحصله الباحث من تتبع فتاوى الفقهاء وتحصيل إتفاقهم على حكم معيَّن في مسألة معيَّنة فالمتتبع حَصَّل الإجماع، وهو محل الكلام في المقام، فكيف يكون هذا الإجماع كاشفاً عن الحكم الشرعي وحجة عليه؟
هناك مباني في كشف الإجماع المحصَّل عن الحكم الشرعي، وهي أربعة:
الأول الإجماع الدخولي: وهو أن يعلم الباحث إجمالاً بدخول الإمام عليه السلام في ضمن المجمعين من دون تمييزه بشخصه وإلا يكون رأي الإمام هو الدليل ولا حاجة للإجماع، وذلك كما إذا عَلِمَ بأنَّ فقهاء المدينة - وكان الإمام عليه السلام من بينهم - إتفقوا على حكم معين في مسألة معنية.
الثاني قاعدة اللُّطف: حيث يقال أنَّ مقتضى اللُّطف الواجب هو أنَّ الله سبحانه وتعالى يمنع من إتفاق الفقهاء على ما هو خلاف الواقع فإذا أجمعوا على حكم في مسألة فلا بد أن يكون موافقاً للواقع وإلا كان من اللُّطف الواجب أن يتدخل الشارع لمنع هذا الإتفاق وذلك بإيجاد مخالف في هذه المسألة أو إلقاء الخلاف بينهم، فما لم يُظهِر الشارع الحق والواقع فمعنى ذلك أنَّ ما إتفقوا عليه هو الحكم الموافق للحكم الواقعي، فقاعدة اللُّطف تقتضي عدم إتفاق الفقهاء على رأي مخالف للواقع وبهذا يكون الإجماع كاشفاً عن الحكم الشرعي الواقعي.
الثالث أن يُعتَمد على إدراك العقل للملازمة بين إجماع الفقهاء وبين رأي المعصوم عليه السلام - وهذا من مدركات العقل النظري بخلاف قاعدة اللُّطف فإنها من مدركات العقل العملي - فتكون الملازمة هي الدليل على الحكم الشرعي، وهي على أنواع عقلية وعادية واتفاقية يأتي الحديث عنها.
الرابع التَّشرف بخدمة الإمام عليه السلام -كما إدعِي لبعض الأبدال - فيعرف رأيه في مسألة وينقل لنا رأيه بعنوان الإجماع.
والمناقشة في ذلك:
أما المبنى الأول - وهو الإجماع الدخولي - فعلى تقدير تحققه لا إشكال في حجيته لأنَّ من يعلم بأنَّ الإمام عليه السلام هو أحد المجمعين فلا إشكال في أنه يعلم بالحكم الشرعي الواقعي، وذلك لأنَّ العلم بدخول الإمام في ضمن المجمعين يستلزم العلم بالحكم الذي يقول به الإمام عليه السلام وهو الحكم الواقعي ، وبهذا يثبت كشف الإجماع عن الحكم الشرعي، لكن الكلام في تحققه إذ كيف يحصل العلم بدخول الإمام في ضمن المجمعين من دون العلم به تفصيلاً!
نعم قد يحصل ذلك ولكن بناءً على افتراضات نادرة ليس لها واقع عملي في الخارج وهي مستبعدة جداً ، ومن هنا لابد من استبعاد هذا المبنى ، وما ينقل لنا من الإجماعات المحصَّلة ليست من الإجماع الدخولي عادةً.
وأما المبني الثاني - أي قاعدة اللطف - ففيه مناقشة كبروية في أصل القاعدة، وهناك مناقشات في تطبيق القاعدة على محل الكلام ، أما المناقشة في أصل الكبرى فقد يقال أنَّ القاعدة غير ثابتة لأنها تعيين التكليف للمولى سبحانه وتعالى بالعقول الناقصة فيقال يجب عليه تعالى اللُّطف بالناس.
وأصل القاعدة من فروع مسألة العدل الإلهي فيقال إنَّ مقتضى كون المولى حكيماً عادلاً هو أن يبعث الرسل وينزل الكتب لهداية الناس، ويُطبق ذلك في محل الكلام فيقال إنَّ مقتضى كونه عادلاً هو أن لا يسمح بإتفاق الفقهاء على حكم مخالف للواقع، فإذا إتفق الفقهاء على حكم ولم يُظهر الشارع خلافه فهذا يعني أنَّ هذا الحكم هو الحكم الشرعي الإلهي، وهذا تعيين التكليف للمولى سبحانه وعقل الإنسان أعجز من ذلك.
ويلاحظ على هذه المناقشة:
أنَّ قاعدة اللطف متفرعة على مسألة العدل الإلهي كما تقدم والمراد بها هو إدراك العقل النظري لما يكون واجباً على الله سبحانه وتعالى بإعتباره حكيماً وعادلاً، بمعنى أنَّ إتصافه بالعدالة له مقتضيات ولوازم لابد أن تقع، فلابد من أن يبعث الرسل وينزل الكتب لهداية الناس ومنعهم من الضلال والانحراف والشقاء في الدنيا والآخرة، ويطبق هذا على محل الكلام فيقال لابد أن يمنع المولى من إتفاق الفقهاء على حكم مخالف للواقع، وهذا من إدراك العقل لما يقتضيه العدل الإلهي ويعبر عن ذلك بـــ (يجب على الله سبحانه) وليس المقصود منه تعيين التكليف عليه سبحانه لأنَّ العقل أعجز من ذلك وإنما المقصود هو إدراك العقل للوازم الإتصاف بالعدالة وأنها لابد أن تقع ، وبالتالي لا معنى للإشكال بأنَّ القاعدة ترجع الى تعيين التكليف للمولى سبحانه وتعالى، وقد طُبقتْ هذه الكبرى في علم الكلام على بعث الرسل والأنبياء وإنزال الكتب وهداية الناس ولم يُستشكل فيها بذلك.
ونفس هذه الكبرى - التي يُعبر عنها بقاعدة اللطف تأدباً وواقعها هو لزوم حصول هذه الأشياء بإعتبار كون المولى عادلاً - طبقها الشيخ الطوسي على مسألة الإجماع بل يظهر من بعض كلماته أنه لا طريق لإثبات حجية الإجماع إلا بالإلتزام بقاعدة اللطف، فقال كما أن العقل يُدرك لزوم بعث الرسل وإنزال الكتب وبيان ما فيه الهداية للناس فكذلك من اللطف الواجب هو منع إتفاق الفقهاء على ما يُخالف الواقع، وإذا إتفقوا على ذلك فلابد من إلقاء الخلاف فيما بينهم أو إظهار الواقع على لسان أحدهم، وإما إذا إتفقوا على حكم معين فيستكشف من ذلك أنه هو الحكم الإلهي الشرعي.
ولكن هذا التطبيق فيه مناقشات وإن سلَّمنا ذلك في بعث الإنبياء والرسل وإنزال الكتب لهداية الناس ، وهي:
المناقشة الأولى: أنَّ العقل لا يُدرك لزوم تصحيح فتاوى الفقهاء الإجتهادية وأنه من اللطف الواجب، بل لا يمكن إثبات أنَّ الحكم المتفق عليه هو الحكم الإلهي الشرعي إستناداً الى هذه القاعدة، بل يمكن أن يكون ما اتفقوا عليه مخالفاً للواقع ولا يُدرك العقل وجوب تصحيح ما إتفق عليه الفقهاء وإظهار الحق على لسان أحدهم وأنه من اللطف الواجب عليه سبحانه.
وبعبارة أخرى: اللطف الواجب على الله سبحانه تعالى هو أن يزيل الموانع من وصول الناس الى الأحكام الواقعية وبالتالي تحصيل المصالح الواقعية وحقائق الأمور من طرفه وجهته لا من طرف الناس وذلك بأن يُرسل الرسل وينزل الكتب ويُبين الأحكام الشرعية حتى يصل الناس الى المصالح الواقعية المترتبة على إمتثال الأحكام الشرعية، وأما هل يجب عليه أن يزيل الموانع حتى إذا كانت ناشئة من قبل الناس أنفسهم وتقصيرهم هذا ما لا يدركه العقل.
فاللُّطف يعني أنَّ الواجب عليه سبحانه هو أن يزيل كل الموانع من وصول الناس الى السعادة والى تحصيل المصالح الواقعية من طرفه ولا يُدرك العقل أكثر من ذلك.
ولو سلَّمنا تطبيق القاعدة على الإجماع للزم ما لا يمكن الإلتزام به، فلو لو إنحصر الإجتهاد بفقيه واحد في زمان ما فيلزم تصحيح فتاواه كلها وتكون مطابقة للواقع، وإلا كان من اللطف الواجب على الله تعالى أن يُبين ما هو الواقع حتى لا يمنع من وصول الناس الى المصالح الواقعية والسعادة الدنيوية والأخروية وهذا مما لا يمكن الإلتزام به.
فتبين من ذلك أنَّ القاعدة يمكن الإلتزام بها كبروياً وتطبيقها يكون فيما ذُكر في علم الكلام بالنسبة الى بعث الرسل وإنزال الكتب دون تطبيقها في محل الكلام.