43/08/22
الموضوع: الظن/ حجية قول اللغوي/
كان الكلام في المقام الثاني وهو في تشخيص اللغوي المعاني الحقيقية عن المعاني المجازية فهل يمكن الإعتماد على قوله في تشخيص الأوضاع اللغوية أو لا ؟
إستشكل فيه بوجهين:
الوجه الأول: إنّ اللغوي ليس من أهل الخبرة في هذا المجال ولذا لا يتعرض أغلب اللغوين لذلك - إلا ما ندر - وإنما ينقلون موارد الإستعمال فيكون ذلك قرينة على أنَّ اللغوي ليس من أهل الخبرة في هذا المجال.
الوجه الثاني: إنَّ اللغويين لا يمكن أن يكونوا من أهل الخبرة في هذا المجال لأنَّ الوسائل المتاحة عندهم - وهي السماع - لا تمكنهم من ذلك.
ويلاحظ عليه إنّ ما ذُكر صحيح في الجملة فأغلب اللغوين يتعرضون لموارد الإستعمال و قلَّ ما نجد من بين قدماء اللغوين من تعرّض الى تشخيص الأوضاع اللغوية ، ولكنه لا يعني عدم إمكان ذلك بل يمكن أن يعتمدوا على ما سمعوه من موارد الإستعمال في إستنباط الأوضاع اللغوية ، فيلاحظوا مثلاً انَّ هذا اللفظ مستعمل كثيراً في هذا المعنى إستعمالاً أقدم من إستعماله في معنى آخر فقد يُستنبط من قدم الإستعمال وحداثته أنَّ اللفظ موضوع للمعنى القديم ، وقد تكون ملاحظة كثرة إستعمال اللفظ في هذا المعنى من دون الإعتماد على شيء مع إستعماله في المعنى الآخر ولكن بمعونة قرينة تدل على إرادة المعنى الثاني فيستفاد من ذلك أنَّ اللفظ موضوع للمعنى الأول دون الثاني ، فهذا وأمثاله يمنع من القول أنَّ اللغويين لا يمكن أن يكونوا من أهل الخبرة في هذا المجال ، نعم الكلام في أنَّ إخبارهم هذا - وهو إخبار عن حدس - هل يكون حجة أم لا ؟
تقدم في عدم الفرق بين إخبار اللغوي عن حس أو إخباره عن حدس في الحجية ، لكن كلٌ بملاك.
وإستُدل على حجية قول اللغوي بوجوه غير ما تقدم من إدراجه في مسألة أهل الخبرة:
الأول: الإجماع على حجية قول اللغوي.
ويلاحظ عليه: عدم وضوح المراد من دعوى الإجماع هنا فهل المراد به الإجماع العملي أم الإجماع الفتوائي كالإجماع المدعى في المسائل الفقهية ؟
أما إذا كان المراد منه الإجماع الفتوائي فالمحصل منه غير حاصل والمنقول - إن فرض وجوده - غير حجة ، على أنه يُحتمل قوياً أن يكون إجماعاً مدركياً ، والمدرك المحتمل هو إدراجه في مسألة حجية قول أهل الخبرة ، وفي الإجماع المدركي يلزم محاسبة المدرك الذي إستند إليه الإجماع فإن كان تاماً أخذنا به وكان هو المستند دون الإجماع ، وإن لم يكن تاماً فلا يكون الإجماع مؤثراً.
وأما إذا كان المراد منه الإجماع العملي - بمعنى إتفاق الفقهاء على العمل بقول اللغوي - فعلى تقدير تحققه يُحتمل أن يكون مستنداً الى وثوقهم واطمئنانهم الحاصل من قول اللغوي فيكون عملهم مستنداً الى الوثوق والاطمئنان لا الى قول اللغوي.
الثاني: الإنسداد ، وهو هنا بمعناه الحقيقي فيدعى أنَّ باب العلم باللغة منسد وقول اللغوي لا يُفيد إلا الظن فيكون قوله حجة بإعتبار إنسداد باب العلم بالأوضاع اللغوية.
ويلاحظ عليه: أنَّ الإنسداد إنما يوجب حجية الظن فيما إذا حصل لدينا علم إجمالي بثبوت أحكام شرعية إلزامية مع إنسداد باب العلم بهذه الإحكام التي نعلم بثبوتها إجمالاً فنضطر الى التنزل من الإمتثال اليقيني الى الإمتثال الظني مع فرض عدم جواز الإحتياط أو عدم وجوبه للزوم العسر والحرج ، وإهمال التكاليف المعلومة إجمالاً غير جائز قطعاً فلابد من التنزل الى الإمتثال الظني ، والعمل بكل ظن وهذا يعنى حجية الظن ، وفي محل الكلام نعلم بأنَّ بعض ما يقوله أهل اللغة صادق ومطابق للواقع ولكن كيف نثبت أنَّ هذا في دائرة الأحكام الإلزامية بحيث يتشكل منه علم إجمالي بوجود أحكام إلزامية فقد يكون ذلك في غير الأحكام الإلزامية فلا يتشكل منه علم إجمالي منجِّز يوجب الإحتياط مع التمكن منه ومع عدم التمكن يوجب التنزل من الموافقة العلمية اليقينية الى الموافقة الظنية ، هذا أولاً.
وثانياً: لو سلَّمنا حصول العلم الإجمالي بتكاليف إلزامية نتيجة قول أهل اللغة ولكن لماذا لا يمكن الإحتياط بلحاظها مع كونها موارد قليلة لا يلزم منها العسر ولا الحرج ولا إختلال النظام فيلزم الإحتياط كما هي القاعدة في موارد العلم الإجمالي من دون الإنتقال الى الإمتثال الظني والقول بحجية الظن ؟!
وثالثاً: لو سلَّمنا بثبوت علم إجمالي بتكاليف إلزامية نتيجة قول أهل اللغة وسلَّمنا عدم إمكان الإحتياط فمع ذلك لا تصل النوبة الى العمل بالظن في حالة وجود عموم أو إطلاق فوقاني يمكن الرجوع إليه مع الفراغ عن ظهوره ، فهنا لا يمكن أن نلتزم بحجية الظن لأنَّ هذا يعني إنفتاح باب العلمي وإن كان باب العلم منسداً ، وهذا يعني أنَّ دليل الإنسداد المدعى لو تم فهو لا ينفع في تقييد مطلق أو تخصيص عموم فوقاني ، فدليل الإنسداد موقوف على إنسداد باب العلم والعلمي - أي الأمارات المعتبرة - ومع وجود العلمي لا موجب للتنزُّل الى الظن وتكون موافقة العلمي موافقة حقيقية ، فإذا وجد عموم أو إطلاق من هذا القبيل فهذا يعني بطلان دليل الإنسداد المدعى في المقام.
ورابعاً: أن المقدار الذي نُسلم إنسداد باب العلم فيه هو تفاصيل الأوضاع اللغوية كإطلاقها وتقييدها من جهة ما وأما أصل الأوضاع اللغوية فلا يكون باب العلم منسداً فيها وإلا لما ذكروا علامات للحقيقة كالتبادر وعدم صحة السلب واطراد الاستعمال لو تمت.
هذا مع الإلتفات الى أنَّ دليل الإنسداد المذكور هنا ليس هو دليل الإنسداد الذي تقدمت الإشارة إليه في كلمات السيد الشهيد قده.
هذا وتعرض المحقق النائيني قده الى مطلب يرتبط بمحل الكلام وحاصله:
فرضنا حصول الوثوق لنا بمعنى اللفظ وكان ذلك الوثوق ناشئاً من قول اللغوي فهل يكون ذلك منشأً لظهور اللفظ في هذا المعنى أو لا يكون منشأً لذلك ؟
فمثلاً لو حصل لنا الوثوق من أنَّ لفظ ( أسد ) ظاهر في الحيوان المفترس إعتماداً على قول اللغوي فهل يكون لفظ ( أسد ) ظاهراً في الحيوان المفترس فتشمله أدلة حجية الظهور ويمكننا تشخيص مراد المتكلم إعتماداً على هذا الظهور أو لا يكون ذلك منشأً لإنعقاد الظهور ويبقى لفظ ( أسد ) في كلام المتكلم غير ظاهر في الحيوان المفترس وإن كنا واثقين من أنَّ معنى ( الأسد ) هو الحيوان المفترس ؟
إختار الأول ، أي أنّ الوثوق بمعنى اللفظ اعتماداً على قول اللغوي يكون منشأً لانعقاد الظهور ، ويقول لأنَّ هذا ليس من الأمور الخارجية التي لا توجب إنعقاد الظهور بل هو مما يوجب انعقاده ولذا لو كان هذا الظهور حاصلاً قبل إلقاء الكلام ثم أُلقي الكلام واستعمل فيه هذا اللفظ فلا إشكال في إنعقاد الظهور في هذا المعنى ، فلو كان الإنسان قبل نزول أية التيمم واثقاً من معنى الصعيد وأنه هو التراب الخالص نتيجة لقول أهل اللغة ثم نزلت الآية ﴿ فَتَیَمَّمُوا۟ صَعِیدࣰا طَیِّبࣰا ﴾ فلا إشكال إنعقاد ظهور في التراب الخالص ، وكذلك الحال لو فرضنا حصول الوثوق بعد صدور الكلام ، فلا معنى للتفريق بين أن يكون الوثوق حاصلاً قبل صدور الكلام أو يكون حاصلاً بعد صدور الكلام وكما ينعقد للأول ظهور في المعنى فكذلك ينعقد للثاني ظهور في هذا المعنى ، فيمكن تشخيص مراد المتكلم على هذا الأساس.
ويلاحظ عليه أنَّ الوثوق في كلامه لم يتضح المراد منه فهل يُراد منه ما يساوق الإطمئنان والذي يُعتبر علماً عرفاً أو المراد درجة عالية من الظن لا تصل الى رتبة الإطمئنان ؟
فإن أراد من الوثوق الإطمئنان فحاله حال العلم ويتم كلامه ويكون ذلك منشأً لإنعقاد ظهور كلمة ( أسد ) في الحيوان المفترس لأنَّ السامع عالم بمعنى اللفظ ويثبت أنَّ المتكلم كان يريد معنى الحيوان المفترس إرادة تصديقية من الدرجة الأولى وإرادة تصديقية من الدرجة الثانية أي يثبت إرادته لإخطار المعنى والإرادة الجدية.
وإن أراد من الوثوق الظن فهل يمكن أن يكون ذلك منشأً لإنعقاد الظهور في المعنى الجديد أو لا ؟
وجوابه إنَّ هذا الظن غاية ما يثبت به هو أن يولد الظن بأن المتكلم يُريد هذا المعنى جداً لا أكثر ، ولكن حجية هذا الظن هي أول الكلام فكيف يوجب ذلك إنعقاد الظهور في إرادة هذا المعنى بنحو يكون الكلام حجة للمتكلم على السامع وبالعكس ! هذا لا يمكن إثباته.