43/08/19
الموضوع: الظن/ حجية قول اللغوي/
كان الكلام في إشتراط أن يكون الإخبار عن حدس في حجية قول الخبير فإذا أدرجنا اللغوي في أهل الخبرة فلا بد من تطبيق هذا الشرط عليه ومن هنا يُستشكل في ذلك باعتبار أنَّ ما ينقله عادة هو من الأمور الحسية لا الأمور الحدسية فكيف يمكن إدراجه في أهل الخبرة ؟
ذكرنا تشكيك السيد الشهيد قده في هذا الإشتراط وأنه لا موجب له وأهل الخبرة قولهم حجة مطلقاً في الأمور الحدسية والحسية ، وأنَّ الصحيح هو التفصيل بين القضايا الكلية والقضايا الجزئية ففي القضايا الكلية التي يحتاج اكتساب الخبرة فيها الى تخصص إستقر بناء العقلاء على اعتبار حجية هذا التخصص في حق غير المتخصصين ومن دون فرق بين أن يكون هذا في القضايا الحسية أو في القضايا الحدسية لأنَّ المناط هو التخصص والتفرغ وكون القضية عامة وكلية لا بد من تحصيل الخبرة فيها ، وأما في القضايا الجزية فتحصيل المعرفة بها لا يحتاج الى تفرغ وتخصص ولا بناء من قبل العقلاء على حجية هذه المعرفة ، ونتيجة ذلك هو أنّ اللغوي إذا أُدرج في أهل الخبرة يكون قوله حجة في القضايا الحسية والحدسية.
ويلاحظ عليه من الممكن إبقاء ما ذهب إليه المشهور من الإشتراط من على حاله فيكون قول الخبير حجة في القضايا الحدسية كما ذكروا وهذا مسلم عندهم ، ومع ذلك يمكن القول بحجية قول اللغوي في نقل القضايا الحسية بملاك آخر وهو إذا بنينا على حجية خبر الواحد في الموضوعات كما هو الصحيح فيكون قوله حجة مطلقاً في الحدسيات باعتبار كونه من أهل الخبرة وقوله واجد لما هو معتبر فيه وفي الحسيات باعتبار أنَّ قوله خبر ثقة كما نقول ذلك في الراوي في نقله القضايا الحسية ، وأدلة خبر الواحد لا تدل على حجية الإخبار عن حدس وإنما تأمرنا بتصديق الثقة فيما ينقله عن حس ، فيمكن القول أنَّ ما ينقله اللغوي لا يخلو إما أن يكون قضية حسية كما لو سمع من العرب وإما أن ينقل قضية حدسية كنقله النتائج التي توصل إليها وما يستنبطه بواسطة الأمور الحسية وثالثة ينقل لنا كلا الأمرين ، فإذا نقل الأمور الحسية فخبره يكون حجة على أساس حجية خبر الثقة في الموضوعات ولا نحتاج حينئذٍ الى التعدد المطلوب في البينة لأن نقله ليس منها ، وإذا نقل النتائج والاستنباطات فقط في المسائل اللغوية فهو حجة أيضاً باعتباره من أهل الخبرة بل هذا هو المتفق عليه ، وهو كالرجوع الى المقوم والمهندس ونحوهما من أهل الخبرة ، وإذا نقل كِلا الأمرين فكل منهما يكون حجة بملاكه ، وبهذا نحافظ على ما ذهب إليه المشهور ونلتزم أيضاً بأنَّ إخبار اللغوي يكون حجة في الحسيات كما هو حجة في الحدسيات.
وحينئذٍ لا يرد الإشكال والتعجب الذي أورده قده على الإلتزام بالاشتراط في حجية قول أهل الخبرة حيث قال كيف يمكن التصديق بأنَّ قول الخبير ( رأيتُ بعيني ) لا يكون حجة وقوله ( استنبطتُ برأيي) يكون حجة ! والحال أنَّ الإخبار عن حس موجب لتقوية الخبر في قبال الإخبار عن حدس فكيف يُرفض ما يوجب تقوية الخبر ويُقبل ما يوجب ضعف الخبر ! فهذا التعجب يزول بما تقدم.
هذا مضافاً الى أنه يمكن توجيه ما ذكروه من الإشتراط في حجية قول أهل الخبرة بأن يقال إنَّ ما ذُكر مبني على ما يشبه الإنسداد العرفي - لا الحقيقي - بمعنى أنَّ يُدعى إنسداد باب العلم بالنسبة الى العلوم اللغوية - وهو كذلك واقعاً - فيكون هو المبرر لبناء العقلاء على حجية قول اللغوي وإلا لتوقفت أمور كثيرة يحتاجها العقلاء والمتشرعة في فهم مرادات المتكلمين ومنهم الشارع وهذا إنسداد جزئي عرفي يُبرر بناء العقلاء على حجية قول اللغوي ، وحينئذٍ يمكن أن نقول أنَّ هذه الحجية منوطة بالحدس باعتبار أنَّ الإنسداد عادة لا يكون في الأمور الحسية وإنما المنسد هو باب العلم في الأمور الحدسية فلذلك لم يبنِ العقلاء على حجية قول أهل الخبرة في الحسيات ، وبهذا يُفرق بين الأمور الحسية والحدسية فيكون قول الخبير حجة في الأمور الحدسية للإنسداد ولا يكون حجة في الأمور الحسية لعدم الإنسداد فيمكن تخريج التفصيل بناءً على هذا.
هذا هو حال الإشكال على قول اللغوي من الجهة الأولى.
وأما الإشكال الآخر وهو يُشترط في حجية قول أهل الخبرة حصول الوثوق والاطمئنان فيقال إنّ قول اللغوي لا يحصل منه ذلك عادة أو لا بد من تقييد حجيته بما إذا حصل منه الوثوق والاطمئنان.
والوجه في هذا الإشتراط ما تقدم من دعوى الإقتصار على القدر المتيقن من الدليل الدال على الحجية وهو السيرة العقلائية وهو دليل لُبي يقتصر فيه على القدر المتيقن ، والقدر المتيقن هو ما إذا حصل الوثوق بقوله ، وهذا الشرط ذُكر في كلماتهم وبنوا عليه في الكفاية وغيرها ولكنهم في التطبيقات العملية خالفوا ذلك وبنوا على حجية قول اللغوي من دون هذا الإشتراط ، ولم يشترطوا ذلك في الرجوع الى المجتهد ولا في المقوَّم بل جعلوا قوله حجة في فض النزاع من دون إشتراط ذلك ، ولو إشتُرط فيه ذلك لم يكن كلامه فيصلاً في حل النزاع.
وأما الإستدلال عليه بأن السيرة دليل لبي لا بد أن يقتصر فيه على القدر المتيقن فصحيح ولكن ذلك في صورة الشك والمدعى في المقام هو أنَّ السيرة قائمة على حجية قول الخبير مطلقاً أي وإن لم يحصل منه الإطمئنان والوثوق فلا معنى للاقتصار على خصوص ما إذا حصل الوثوق والاطمئنان من قوله،.
مضافاً الى أنَّ هذا الإشتراط يُلغي خصوصية قول الخبير لأنَّ كل ما يوجب الاطمئنان يكون حجة لأنه علم عرفاً فلا خصوصية لقول الخبير ، والخصوصية القائمة في الخبير بحيث تكون الحجية له لا لغيره هي في عدم إشتراط حصول الإطمئنان من قوله وإلا لم يكن فرق بين قوله وقول غيره.
بل مع إشتراط هذا الشرط لا حاجة الى الإستدلال على حجية قول أهل الخبرة ويكفي في ذلك قيام السيرة على حجية الاطمئنان ويكون هو الدليل وليس هو قول الخبير إذا أفاد الوثوق والاطمئنان.
هذا كله في المقام الأول وهو في ما ينقله اللغوي من موارد الإستعمال.
أما المقام الثاني وهو ما ينقله اللغوي لتشخيص الحقيقة من المجاز والظاهر من غير الظاهر فهل يكون كلامه حجة في ذلك أو لا يكون كذلك ؟
إستشكل في حجية قوله في هذا المقام بوجهين:
الوجه الأول: دعوى أنَّ اللغوي ليس خبيراً في هذا المجال لأنهم لم يذكروا ذلك في كتبهم اللغوية وإنما ذكروا موارد الإستعمال فقط من دون تشخيص المعنى الحقيقي من المجازي ، نعم يستثنى من ذلك ما حدث في زمان متأخر كما في أساس اللغة للزمخشري قالوا هو أول من تطرق لذلك ، وهو من أعلام القرن السادس وأما الكتب اللغوية المتقدمة عليه فلا تتطرق الى ذلك عادة.
الوجه الثاني: أنَّ أهل اللغة لا يمكن أن يكون خبراء في هذا المجال أساساً باعتبار عدم توفر الوسائل الكافية التي تمكنهم من تشخيص المعاني الحقيقية من المعاني المجازية فإنَّ المتوفر لديهم لا يزيد على الاستماع من أهل اللغة من القبائل الأصيلة وهذا ليس كافياً لتشخيص المعاني الحقيقية من المعاني المجازية فلا يمكن أن يكونوا من أهل الخبرة في هذا المجال.
وليس المتعارف عندهم هو بيان المعنى الحقيقي من المعنى المجازي للكلمة وإنما المتعارف عندهم هو نقل الإستعمال عن حس لكن قد يتوصل اللغوي من خلال هذا النقل الى تشخيص المعنى الحقيقي وتمييزه عن المعنى المجازي فيمكن أن يكون من الخبراء في هذا المجال ويكون لهم رأيهم إستناداً الى الحسيات التي سمعوها ، مثلاً لو كان هناك كلام ولاحظوا أنَّ هذه الكلمة تستعمل في هذا المعنى وتستعمل أيضاً في معنى آخر لكن استعملها الأول أقدم من إستعمالها في المعنى الثاني فقد يتوصلون من خلاله الى أنَّ المعنى الأول هو المعنى الحقيقي دون المعنى الثاني ، أو لاحظوا أن إستعمال الكلمة في المعنى الثاني يقترن دائماً أو غالباً بما يُشير الى إرادة المعنى الثاني بينما إستعماله في المعنى الأول لا يقترن بشيء فيستنبطون من ذلك أنَّ المعنى الأول هو المعنى الحقيقي دون المعنى الثاني ، وأمثال هذه الأمور يمكن أن تحدث كثيراً من خلال التأمل فيما نقلوه عن سماع ويمكن أن يتوصلوا الى نتائج حدسية وآراء يُبينونها ويخبرونا بها ويكونوا من أهل الخبرة وأدوات ذلك موجودة لديهم ، بل قد وقع هذا لو من بعض اللغويين.