الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/08/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية قول اللغوي/

قلنا أنَّ الرجوع الى قول اللغوي يكون في مقامين الأول لمعرفة موارد الإستعمال والثاني لتشخيص المعاني الحقيقية عن المعاني المجازية ، أما المقام الأول فأُشكل فيه من جهتين:

الجهة الأولى: إنَّ معرفة موارد الإستعمال لا تترتب عليها ثمرة وإنما تُدعى الثمرة في تشخيص المعنى الحقيقي من غيره وبتشخيص الظهور.

الجهة الثانية: ولو فرضنا حجية قول اللغوي فهو حجة على أساس قيام السيرة العقلائية على الرجوع الى أهل الخبرة فلا بد من إدخال قوله في كبرى حجية قول الخبير ، ولكن ذلك لا يتم من جهتين:

الأولى: أنَّ حجية أهل الخبرة إنما تكون في الأمور الحدسية إذ لا فرق بين الخبير وبين غيره في الأمور الحسية وقول اللغوي في تشخيص موارد الإستعمال من الحس ولا علاقة له بالأمور الحدسية فلا يمكن إدراجه في هذه الكبرى.

الثانية: أن يكون قول الخبير موجباً للوثوق والاطمئنان وقول اللغوي في تشخيص موارد الإستعمال لا يوجب ذلك عادة ، فكيف يمكن إدراجه في هذه الكبرى ؟

ويجاب عن ذلك:

أما دعوى عدم ترتب ثمرة عملية على معرفة موارد الإستعمال فجوابه المنع من ذلك فقد تترتب الثمرة على معرفة ذلك أحياناً ، فمن ذلك ما ذكروه من أنَّ اللفظ قد يدور أمره بين أن يكون ظاهراً في معنى عام أو يكون ظاهراً في أحد مصاديق ذلك العام وإذا نقل اللغوي إستعمال اللفظ في مصداق آخر من مصاديق العام مع فرض خلو الإستعمال عن القرينة فنفهم منه أنَّ اللفظ موضوع للمعنى العام كما لو نقل لنا إستعمال ( الصعيد ) في غير التراب وهذا اللفظ يدور أمره بين أن يكون موضوعاً للتراب أو لمطلق وجه الأرض ومن نقله هذا الإستعمال نعلم بوضعه للمعنى العام ، فيمكن تصور ترتب الفائدة على معرفة موارد الإستعمال.

وأيضاً نقل اللغوي إستعمال اللفظ في عدة معاني يخلق عندنا حالة الإجمال وهذه ثمرة أيضاً ، فلا يمكن القول أنَّ معرفة موارد الإستعمال لا تترتب عليها ثمرة بقول مطلق.

وأما الاشكال الثاني - وهو إدراج قول اللغوي تحت كبرى حجية قول أهل الخبرة - بجهتيه فالجواب عنه:

أما الجهة الأولى فيُجاب عنها بوجهين:

الأول: أن يقال أنّ قول اللغوي ليس أمراً حسياً دائماً فقد يكون حدسياً في بعض الموارد ومن ذلك إعماله حدسه في إنتزاع الجامع من موارد إستعمال اللفظ ويدعي أنَّ اللفظ موضوع لهذا الجامع وهذه الموارد مصاديق له وليس اللفظ موضوعاً لكل واحد منها على حدة ، وعليه لا إشكال في إرجاع قوله الى كبرى حجية قول أهل الخبرة.

الثاني: ما طرحه السيد الشهيد قده من إمكان التشكيك في القاعدة المسلمة عندهم - أي أنَّ قول الخبير إنما يكون حجة في الحدسيات دون الحسيات - فمن أين نثبت أنَّ سيرة العقلاء وهي المدرك لهذه الكبرى جرت على أنَّ قول الخبير حجة عند نقل الأمور الحدسية ولا يكون قوله حجة في نقله الأمور الحسية ! هذا التفصيل غير واضح.

ووجه التشكيك في هذا التفصيل هو إنَّ كون الخبر حدسياً مما يوجب وهنه في قبال الخبر الحسي لأنَّ إحتمال الإشتباه والخطأ في الخبر الحسي أقل منه في الخبر الحدسي كما هو واضح فمن الصعب افتراض بناء العقلاء على الحجية في ما يكون موجباً لضعف الخبر وبناؤهم على عدم الحجية فيما يوجب قوة الخبر بعد قيام السيرة العقلائية على أساس الكشف وإحراز الواقع ! هذا التفريق غير متصور.

ثم يطرح شيئاً جديداً ويقول: الصحيح هو أنَّ الميزان في الحجية هو كون الخبر يرتبط بأمر حياتي عام يحتاج استيعابه والاطلاع عليه الى تفرغ وتخصص ، فكل علم لا بد أن يتخصص فيه مجموعة من البشر ولا يمكن أن يكلف بذلك كل إنسان إنسان وإلا لتعطلت الحياة فاستقر بناء العقلاء على التخصص في كل علم ، والخبرة التي يكتسبها المتخصص في كل مجال تكون حجة على غيره ، هذا هو المناط في حجية قول الخبير ولا علاقة له بكون المخبَر به حسياً أو حدسياً.

وهذه الفكرة لا تجري في الأمور الجزيئة -كمجيء زيد وموت عمرو - وإنما تجري في الأمور العامة التي يحتاجها البشر والتي تقتضي تفرغاً وتخصصاً.

ومنه يظهر أنَّ التفصيل في السيرة العقلائية ليس بين الحدس والحس بل بين القضايا العامة التي تحتاج الى تفرغ وتخصص وبين القضايا الجزيئة التي لا تحتاج الى ذلك ففي القسم الأول يكتفي العقلاء بكلام أهل الخبرة سواءً كان كلامهم على أساس الحدس أو كان على أساس الحس وفي غيرها - أي في الأمور الجزئية - لا يكتفي العقلاء بكلام من يخبر عن الحدس لعدم الدليل على حجية كلامه وأما إذا أخبر فيها عن حس فيأتي الكلام المذكور في حجية خبر الواحد في الموضوعات فإن قلنا أنه حجة فيُقبل خبره ، وإن قلنا أنه ليس بحجة في الموضوعات فلا نأخذ بكلامه إلا إذا إنطبق عليه عنوان الشهادة والبينة مع ملاحظة ما يشترط فيها من العدالة والتعدد ونحو ذلك.

ومن الواضح أنَّ اللغة من قبيل القسم الأول أي من القضايا العامة التي تحتاج الى تفرغ وتخصص ، ولا يمكن أن يكلف بذلك كل أحد بل لا يمكن أن يكلف به حتى من يشتغل بعلم الفقه والأصول وإنما يَعتمد على قول أهل الخبرة في هذا الفن ويكون كلامهم حجة على غير المتخصص، فالسيرة العقلائية منعقدة على الرجوع الى قول اللغوي باعتباره من أهل الخبرة من دون فرق بين ما ينقله عن حدس وما ينقله عن حس ، وعليه فحتى لو سلمنا أنَّ جميع إخبارات اللغوي حسية فهي مشمولة لكبرى حجية كلام أهل الخبرة.

وبناءً على تمامية ما ذكره السيد الشهيد قده يمكن إدراج قول الرجالي في كبرى حجية أهل الخبرة لأن الإشكال المذكور في إدراج قول الرجالي في هذه الكبرى هو نفس الإشكال المذكور في قول اللغوي وهو أنَّ إخباراته حسية ويشترط في الكبرى أن يكون الخبر حدسياً ، وجوابه ما تقدم من أنَّ هذا العلم يحتاج الى تخصص فيكون قوله حجة من دون فرق بين أن يكون قوله أمراً حدسياً أو يكون أمراً حسياً.

نعم لا بد من التنبيه على أنَّ قول الخبير إنما يكون حجة بالنسبة الى من لا يتمكن من إستعمال الوسائل التي توصله الى النتيجة في مجال اللغة وهو المسمى بالعامي ولا يكون قوله حجة على متخصص مثله ، كما يقال ذلك في الفقيه إذ لا يكون قوله حجة على فقيه آخر متمكن من إستعمال نفس الوسائل والوصول الى نتائج قد تتفق وقد تختلف ، فاللغوي كلامه حجة بالنسبة الى غير المتخصص وأما من يتمكن من استعمال ما إستعمله اللغوي للوصول الى النتيجة فلا يكون قوله حجة عليه ، هذا ما يرتبط بالجهة الأولى للإشكال.

وأما الجهة الثانية للإشكال وهي إشتراط حصول الوثوق والاطمئنان من قوله وقول اللغوي لا يُفيد ذلك ، ولعل أصل الوجه في هذا الإشتراط هو أنَّ الدليل على حجية قول أهل الخبرة هو السيرة العقلائية وهي دليل لبي يُقتصر فيه على القدر المتيقن وهو هنا فيما أفاد قوله الوثوق والاطمئنان دون ما لم يُفد ذلك فنقصر على القدر المتيقن.