الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/08/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية قول اللغوي/

كان الكلام في أصالة عدم النقل وأن مورد جريانها هو الشك في أصل النقل والتغيير فتجري لإثبات عدم النقل والتغيير وبالتالي إثبات أنَّ الظهور الموضوعي النوعي في زماننا هو الذي كان ظاهراً في زمان صدور النص وعلى هذا الأساس يمكن إستكشاف مراد الشارع من النص الواصل إلينا.

وأما التعويض عن هذا الأصل بالإستصحاب فيُقرب تارة باستصحاب العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى فإنها متيقنة فعلاً بحسب الفرض لأننا نحرز الظهور الموضوعي النوعي ونشك في أنَّ هذه العلاقة كانت موجودة في الزمان السابق فنستصحب وجودها استصحاباً قهقرائياً ونثبت أنها كانت موجودة في الزمان السابق.

وفيه أنَّ المعتبر في الإستصحاب أن يكون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي والعلاقة بين اللفظ والمعنى ليست كذلك فلا يجري فيها الإستصحاب.

ويُقرب أخرى باستصحاب الظهور لأنَّ المفروض أننا أثبتنا الظهور النوعي الموضوعي لهذا الكلام ومع الشك في وجوده في الزمان السابق من جهة احتمال النقل فنستصحب هذا الظهور الذي كان ثابتاً قبل إحتمال النقل ، والظهور موضوع للحكم الشرعي وهو الحجية فلا يرد الإشكال الوارد على التقريب السابق.

وفيه أنَّ هذا الإستصحاب لا يمكن أن يجري إلا بنحو تعليقي وذلك بأن نقول إنَّ هذا الكلام لو صدر قبل النقل لكان ظاهراً في هذا المعنى كما هو ظاهر فيه الآن ولكن الاستصحاب التعليقي لا يجري في الموضوعات بلا إشكال، وعليه لا يمكن إجراء الإستصحاب بكلا تقريبيه.

الشك في مؤثرية الموجود

وهناك حالة أخرى لا تجري فيها أصالة عدم النقل غير حالة الشك في تاريخ النقل وهي الشك في مؤثرية الموجود في النقل والتغيير كما إذا أحرزنا وجود شيء وشككنا في أنه أثَّر في النقل وتغيير اللغة أم لم يؤثر فيها فهنا أيضاً لا تجري أصالة عدم النقل وإنما تجري عند الشك في أصل وجود ما يوجب التغيير ، وهذا على غرار التفريق بين إحتمال وجود القرينة واحتمال قرينية الموجود فيقال إنَّ أصالة عدم القرينة تجري في الأول ولا تجري عند الشك في الثاني.

والشك في المقام تارة يكون في أصل وجود ما يوجب التغيير والنقل وأخرى يكون في مؤثرية الموجود وأصالة عدم النقل تجري في الحالة الأولى بلا إشكال وأما في الثانية كما إذا كثُر استعمال اللفظ في معنى آخر بنحو يوجب إحتمال التأثير في النقل والتغيير فهنا قالوا لا تجري أصالة عدم النقل وعُللوا ذلك بأنَّ دليل إعتبار هذا الأصل هو إما السيرة العقلائية وإما سيرة المتشرعة فأما السيرة العقلائية فلا يمكن الإستدلال بها على حجية أصالة عدم النقل في مثل هذه الحالة لأنها قائمة على أساس استبعاد حصول النقل في اللغة والبناء على ثباتها وأنَّ النقل حالة نادرة وحينئذٍ يقال إنَّ هذه السيرة لا تنعقد في محل الكلام لأنَّ هناك ما يقتضي النقل والتغيير ومع وجوده لا استبعاد في حصول النقل والتغيير وإنما يتحقق الاستبعاد مع عدم وجود ما يقتضي ذلك فإذا شك في وجوده فيقال أنّ النقل والتغيير حالة مستبعدة وتجري السيرة العقلائية على عدمه بخلافه عند وجود ظروف يُحتمل تأثيرها في النقل والتغيير فلا يُعلم حينئذٍ إنعقاد سيرة العقلاء على عدم النقل حتى في مثل هذه الحالة.

وأما سيرة المتشرعة فيقال لا جزم بانعقاد سيرة من قبل المتشرعة على العمل بظواهر النصوص الواردة إليهم من الأئمة المتقدمين في مثل هذه الحالة وإنما هي منعقدة في حالة الشك فيما يكون مؤثراً في النقل والتغيير، وبعبارة أخرى سيرة المتشرعة من الأدلة اللبية والمتيقن منها هو صورة الشك في أصل وجود المؤثر لا في مؤثرية الموجود.

المعارضة مع قول اللغوي

وهناك حالة ثالثة يمكن أن يُشكك في جريان أصالة عدم النقل فيها وهي فيما إذا كانت أصالة عدم النقل معارضة بقول اللغوي - بناءً على حجيته - كما إذا كان اللغوي يؤكد على أنَّ معنى اللفظ هو غير المعنى الذي نستظهره الآن ونريد إثباته في عصر الصدور بأصالة عدم النقل ، فيحصل التعارض بين الأصل وقول اللغوي ودليل كل منهما هو السيرة وهي دليل لُبي يقتصر فيها على القدر المتيقن وهو العمل بكل منهما في غير مورد تعارضهما ، ومن هنا يظهر عدم جريان أصالة عدم النقل في حالة من هذا القبيل.

الى هنا ينتهي الكلام عن بحث الظواهر وندخل فيما يُدعى أنه أمارة أخرى وهو قول اللغوي فهل قوله حجة أم لا، بمعنى هل يمكن الإعتماد عليه في التنجيز والتعذير أو لا يمكن الإعتماد عليه في ذلك؟

حجية قول اللغوي

بعد أن فرغنا عن أصالة عدم النقل واستخدامها كطريق لإحراز الظهور النوعي الموضوعي في زمان صدور النص بعد فرض إحرازه فعلاً في زماننا - أي إحراز الظهور الذاتي ثم الظهور الموضوعي النوعي في عصرنا ثم الإنتقال الى تشخيص الظهور الموضوعي النوعي في زمان صدور النص ثم الإنتقال منه الى تشخيص مراد المتكلم الذي هو المدار في الحجية - يقع الكلام في طريق آخر لتشخيص الظهور الموضوعي النوعي للكلام وهو نص اللغوي ويستخدم هذا الطريق عند العجز عن معرفة معنى كلمة واردة نص شرعي إما لوجود إحتمالات تتردد فيها الكلمة بنحو الإشتراك فنحتاج لتعيين المعنى الذي يكون اللفظ ظاهراً فيه فنرجع الى قول اللغوي لتعيينه وإما لوجود الإجمال المطلق بنحو لا نعلم معنى الكلمة فنستعين بقول اللغوي لتشخيصه ، وأما لو أمكن تشخيص المعنى اللغوي للكلمة وهو الظهور النوعي الموضوعي لها في زماننا وشككنا في أنه نفس المعنى الظاهر في زمان صدور النص أي نشك في حصول النقل فلا نرجع فيه الى قول اللغوي وإنما نرجع الى أصالة عدم النقل.

وبعد أن إتضح ذلك ذكروا أنَّ الرجوع الى قول اللغوي له مقامان :

الأول لمعرفة موارد إستعمال اللفظ، وهذا هو الغالب على اللغويين فإنهم يذكرون موارد الإستعمال من دون تعيين أنه حقيقة أو مجاز.

الثاني لتشخيص المعاني الحقيقية.

واستشكلوا في حجية قول اللغوي في كِلا المقامين ، أما المقام الأول فاستشكلوا فيه من جهتين:

الجهة الأولى أنَّ معرفة موارد الإستعمال لا تترتب عليها ثمرة وإنما تترتب على معرفة الظاهر من غيره أو معرفة المعنى الحقيقي من المجازي لأنَّ الظهور هو موضوع الحجية وأما مجرد كون الكلمة إستعملت في معنى من دون أن يكون ظاهراً فلا يترتب عليه أثر وعليه لا معنى لجعل الحجية لقول اللغوي.

وأما الجهة الثانية فعلى تقدير القول بحجية قول اللغوي فإنما هي قائمة على أساس قيام السيرة العقلائية على الرجوع الى أهل الخبرة فإذا دخلت كصغرى في هذه الكبرى فلابد أن نشترط فيها ما نشترطه في تلك الكبرى وما يُشترط هناك هو أن قول الخبير إنما يكون حجة في الأمور الحدسية لا الحسية كقول الطبيب والمهندس والمقوِّم فرأيه فكون حجة وأما إذا نقل الخبير قضية حسية فأدلة حجية قول الخبير لا تشمله ولا فرق بينه وبين غيره من هذه الجهة ، وهذا الشرط غير متحقق في قول اللغوي لأنه لا ينقل رأيه في قضية حدسية ولا يُبين لنا اجتهاده فقول اللغوي - على تقدير القول بحجيته - لابد من إدخاله في تلك الكبرى وحيث لا توجد فيه شروطها فلا يكون قوله حجة.

ويقال من جهة أخرى أنَّ قول الخبير إنما يكون حجة عقلائياً إذا أوجب حصول الوثوق والاطمئنان لا مطلقاً - ولابد أن يكون مقصودهم من الإطمئنان أعلى درجات الظن وليس مرتبته العالية التي لا إشكال في حجيتها - وأما إذا لم يصل الى هذه الرتبة فلا يكون حجة ، ومن غير الواضح أن قوله يكون موجباً للوثوق دائماً أو في أغلب الحالات والمطلوب هنا إثبات حجيته إذا لم يوجب إلا الظن كخبر الثقة فهو حجة حتى مع حصول الظن بالخلاف ، فهل قول اللغوي من هذا القبيل أم لا ؟