43/08/12
الموضوع: الظن/ حجية الظواهر / الظهور الذاتي والظهور النوعي
بعد أن فرغنا عن أنَّ موضوع الحجية هو الظهور النوعي الموضوعي لا الظهور الشخصي الذاتي وطرحنا السؤال عن كيفية إحراز الظهور النوعي إذ لا يمكن أن يقول السامع أكثر من أنَّ هذا المعنى ظاهر لي ، فكيف يُحرز أنَّ هذا ظهور نوعي ناشئ من نظام اللغة مع إحتمال أن يكن هذا الظهور ناشئاً من أسباب خاصة بهذا الشخص فيكون ظهوراً ذاتياً وليس هو موضوع الحجية ولا يمكن تشخيص مراد المتكلم إعتماداً عليه ، فكيف يُحرز الظهور الموضوعي من إنسباق معنى الى الذهن ؟
فلو فرضنا أنَّ شخصاً قال ( رأيتُ أسداً في الشارع ) فينسبق ذهن السامع الى الحيوان المفترس فكيف يمكن إثبات أنَّ هذا الانسباق نشأ من نظام اللغة ؟ إلا يمكن أن يكون نشأ من سبب خاص إرتبط به كما لو رأى هذا السامع الأسد في الشارع قبل قليل فعندما سمع القائل انسبق ذلك الى ذهنه ؟
والجواب عنه إنَّ اثبات الظهور الذاتي وهو نفس الظهور الموضوعي يكون من خلال طرق:
الطريق الأول: الملاحظة والتحليل وذلك باستقراء أفراد كثيرين مختلفين في الزمان والمكان فإذا تبادر الى أذهانهم هذا المعنى فبحساب الإحتمالات نطمئن بأنَّ هذا الانسباق لم ينشأ من أسباب خاصة بهذا السامع وانما نشأ من أسباب عامة يشترك فيها الجميع وليس هي إلا النظام اللغوي وقوانين باب المحاورة ، فيثبت التطابق بين الظهور الذاتي والظهور الموضوعي وهذا يعني أنَّ ظهور هذا الكلام ظهور موضوعي ويكون حجة ويمكن تشخيص مراد المتكلم على ضوئه.
الطريق الثاني: أن يدعى إحراز الظهور الموضوعي تعبداً وذلك بأن يدعى أنَّ الظهور الذاتي أمارة عقلائية على الظهور الموضوعي فنُحرز الظهور الموضوعي تعبداً بواسطة الأمارة ، ويُستدل عليه ببناء العقلاء وأن سيرتهم على التعبد بإحراز الظهور النوعي بالظهور الذاتي ، فالحجة هو الظهور النوعي والأمارة عليه هو الظهور الذاتي ، فالعاقل إذا حصل عنده ظهور يجعل الانسباق الحاصل لديه أمارة على أنه ظهور موضوعي ولا يعتني باحتمال كونه ظهور ذاتياً ناشئاً من أسباب مختصة به ، ويقال أنَّ الشارع أمضى هذه السيرة.
ولعل الوجه في هذه الدعوى هو أنَّ العقلاء يرون أنَّ احتمال الفرق بين الظهورين ضعيف جداً ، نعم قد يكون ذلك في حالات معينة ولكنها نادرة ، فلا يعتنون بهذا الإحتمال ويجعلون الظهور الذاتي الشخصي أمارة على الظهور الموضوعي.
وهذا الطريق يختلف عن جعل التبادر علامة على الحقيقة فإنَّ الظهور الشخصي المذكور في هذا الطريق هو التبادر وليس شيئاً آخر ولكن لا يراد من هذه الدعوى جعل التبادر علامة على الحقيقة وذلك لأنَّ كون التبادر علامة على الحقيقة ينشأ من انحصار اسباب التبادر في الوضع أو القرينة فإذا نفينا إحتمال القرينة يتعين أن يكون ناشئاً من الوضع فيكون التبادر علامة على الحقيقة لأنه يكشف كشفاً إنياً عن الوضع لأنه معلول للوضع ، وأما في هذا الطريق فالمراد هو جعل التبادر علامة على الظهور النوعي الموضوعي - لا على الوضع - والظهور النوعي لا يتحدد بالوضع بل يُساهم في تكوينه الوضع والقرائن اللفظية والحالية ومناسبات الحكم والموضوع ، فالظهور النوعي ما اشترك في أسبابه الجميع وإن كان ناشئاً من القرينة ، فيُراد جعل الظهور الشخصي - وهو التبادر - علامة على الظهور النوعي لا على الوضع بدليل أنَّ التفريق بينهما شيء نادر ، والظهور الحاصل عادة يكون على أساس النظام اللغوي الذي يدخل فيه الوضع والقرائن والمناسبات وافتراق الظهور الذاتي عن الظهور النوعي حالة نادرة لا يعتني بها العقلاء ، والخلاصة الظهور الشخصي لم ينشأ من أسباب خاصة بالسامع.
الطريق الثالث: الإعتماد على التأمل الذاتي لمعرفة منشأ هذا التبادر فهل نشأ من أسباب خاصة أم لا ، فإن أمكنه نفي إحتمال المناشئ الخاصة وتحصيل الإطمئنان بعدمها فحينئذٍ يستكشف أنَّ هذا الانسباق حصل نتيجة نظام اللغة المعهود الذي يشترك فيه الجميع ويثبت أنَّ هذا الظهور ظهور موضوعي نوعي وهو موضوع الحجية فيمكن أن يستكشف به مراد المتكلم.
وبعد أن شخصنا أنَّ موضوع الحجية هو الظهور الموضوعي النوعي وأنه حجة على تشخيص مراد المتكلم يُطرح سؤال آخر وهو هل أنَّ موضوع الحجية هو الظهور الموضوعي النوعي في عصر صدور النص أو في زمان فهم النص ؟
وعلى الأول نواجه مشكلة إذ كيف يمكن تشخيص أنَّ الظهور الموضوعي النوعي الحاصل لنا هو نفس الظهور النوعي في زمان النص ؟
وهذا السؤال يستبطن افتراض اختلاف الظهورين بلحاظ الزمان فيقال أيهما هو موضوع الحجية وأما إذا اتحدا فلا مجال لطرح هذا السؤال كما هو واضح.
ونفس إفتراض اختلاف الزمانين في الظهور الموضوعي النوعي يعني افتراض تغير النظام اللغوي وذلك بأن يكون النظام في زمان سابق يُشخص ظهوراً معيناً والنظام اللغوي في زمان متأخر يُشخص ظهوراً مغايراً وكل منهما ظهور موضوعي نوعي ، فلابد لتجاوز هذه المشكلة من الإنتقال من الظهور الشخصي الى الظهور النوعي في زماننا هذا ثم من هذا الظهور النوعي الى الظهور النوعي في زمان النص الذي هو موضوع الحجية بحسب الفرض.
تغلب الأعلام على ذلك بأصالة عدم النقل وذلك لأنَّ غاية الأمر هو إحتمال تعدد الظهور النوعي وعلى أساسه ذُكر الإشكال ولا دليل على التعدد ، ومجرد الإحتمال يمكن نفيه بأصالة عدم النقل التي يُسميها السيد الشهيد بأصالة الثبات في اللغة ، وإذا إنتفى هذا الإحتمال ثبت أنَّ الظهور الموضوعي النوعي واحد ويمكن تشخيص مراد المتكلم به، فالفقيه أولاً يُثبت الظهور الشخصي لديه ومنه ينتقل الى إثبات الظهور النوعي الموضوعي في زمانه ومنه يُثبت أنَّ هذا ثابت في الزمان السابق بأصالة عدم النقل ثم يُشخص مراد المتكلم والاستنباط يستبطن هذه المراحل الأربعة.
وهذا الكلام لا يختص بالمفردات والجمل التركيبة بل يشمل حتى السياقات غير الوضعية فيشمل كل ما يساهم في تكوين الظهور ويثبت أن الظهور النوعي واحد في زمان النص وفي غيره.
ويبقى أنّ الأصل الذي اعتمدوا عليه - وهو أصالة عدم النقل - كيف يمكن اثباته وما هو دليلهم عليه ؟
ولا نتوقع أن يقيموا دليلاً شرعياً على هذا الأصل كما هو واضح وإنما إستدلوا عليه بأدلة أخرى:
الدليل الأول السيرة العقلائية قالوا: أنَّ السيرة العقلائية قد جرت على ترتيب الآثار وتشخيص مراد المتكلم الصادر في أزمنة سابقة وترتيب الآثار عليه ، ومن ذلك النصوص الواصلة إليهم في باب الأقارير والأوقاف والوصايا فيشخصون مراد المتكلم اعتماداً على هذه الطريقة ويرتبون الآثار على ذلك ، فلابد أن يستند ذلك الى أصالة عدم النقل.
الدليل الثاني سيرة المتشرعة - وهي أهم من سيرة العقلاء - فيقال لا شك في أن أصحاب الأئمة المتأخرين كانوا يعملون بما يرونه ظاهراً من النصوص الواصلة إليهم من النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المتقدمين ويرتبون الآثار على ذلك مع أنَّ المدة ليست قليلة فيحتمل في هذا الزمان التبدل خصوصاً مع دخول ثقافات جديدة يُحتمل تأثيرها في نظام اللغة العام ولكنهم مع ذلك يعملون بما هو ظاهر لديهم ويشخصون به مراد المتكلم.
والدليل الثاني أهم لأن السيرة العقلائية لابد أن نفترض فيها عمل العقلاء بظواهر الكلام الصادر في زمان سابق مع احتمال التغير والتبدل ولكنه شيء نادر في العقلاء بخلاف المتشرعة الذين يعملون بالروايات الواصلة اليهم من النبي صلى الله عليه وآله مع أنَّ احتمال التغيير وارد ، فالعمدة هو سيرة المتشرعة.