الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/08/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية الظواهر / التفصيل في حجة الظهور/ التفصيل الثاني

قلنا أنَّ الطائفة الأولى من الروايات الظاهرة في حجية ظواهر الكتاب - وهي الروايات الآمرة بالتمسك بالكتاب - إذا لوحظت مع الروايات الناهية عن تفسير القرآن بالرأي فالنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه لأنَّ الروايات الناهية عن التفسير بالرأي لا تشمل النصوص القطعية والصريحة وتشمل الظاهر والمجمل والروايات الآمرة بالتمسك بالكتاب تشمل النص والظاهر ولا تشمل المتشابه فمورد الإجتماع هي الظهورات القرآنية ، ومقتضى الروايات الآمرة بالتمسك بالكتاب حجية هذه الظهورات بينما مقتضى الروايات الناهية عن تفسير القرآن بالرأي هو عدم حجيتها فيتعارضان في مادة الإجتماع ومع عدم إمكان الجمع العرفي بينهما وعدم المرجح يحصل التساقط والكلام في المرجع بعد فرض التساقط.

فقد يقال أنَّ المرجع بعد فرض التساقط هو السيرة العقلائية القائمة على العمل بالظهورات مطلقاً فإنَّ العقلاء لا يُفرقون بين ظهورات الكتاب وبين غيرها ، وإنما نرجع للسيرة بعد سقوط ما يكون رادعاً عن السيرة بالتعارض وهي الروايات الناهية عن تفسير القرآن بالرأي.

ولكن يشكل الإلتزام بذلك باعتبار أنَّ السيرة تحتاج الى إحراز عدم الردع لإحراز الإمضاء ، والدليل الشرعي في الحقيقة هو الإمضاء وإحرازه يتوقف على إحراز عدم الردع ، وأما مع إحتمال الردع فلا يمكن إستكشاف الإمضاء من هذه السيرة ، وفي محل الكلام الروايات الناهية عن تفسير القرآن بالرأي سقطت بالمعارضة ولكن يبقى إحتمال أن تكون رادعة عن السيرة فإنَّ السقوط بالمعارضة قضية إجتهادية حاصلة بمقتضى القواعد العامة ولا يعني إنتفاء إحتمال الردع بها وما دام هذا الإحتمال وارداً فلا يمكن إستكشاف الإمضاء ، فلابد في الإستدلال بالسيرة العقلائية من إحراز عدم الردع عنها ومع إحتماله لابد من التوقف عن الإستدلال بها ، ومن هنا يقال إنَّ سقوط هذا الدليل بالمعارضة لا يصحح الرجوع الى السيرة العقلائية على العمل بالظهورات القرآنية لاحتمال الردع عنها بالأدلة الناهية عن تفسير القرآن بالرأي وإن سقطت بالمعارضة.

وقد يقال نرجع الى إستصحاب عدم الردع وذلك باعتبار وجود سيرة على العمل بظواهر الكتاب فمع الشك في الردع عنها يمكن استصحاب عدم الردع ، هذا العدم الثابت في بداية الشريعة فإنَّ المتشرعة من العقلاء عند نزول الكتاب عملوا بظواهره وذلك قبل صدور الروايات الناهية عن التفسير بالرأي.

والجواب إنَّ هذا الإستصحاب يُثبت لنا عدم الردع فقط والمراد هو الإنتقال الى لازمه أي الإمضاء فيكون أصلاً مثبتاً وليس بحجة بلا إشكال ، نعم لو كان هناك أثر شرعي يترتب على عدم الردع فلا إشكال في استصحابه ولا يكون الإستصحاب بلحاظه أصلاً مثبتاً لكن المطلوب في المقام هو الإمضاء وهو لازم عدم الردع.

وقد يقال أيضاً ما هو المانع من الرجوع الى إستصحاب بقاء حجية الظهور لأنهَّ كان حجة ولو في أول الشريعة وقبل صدور الروايات الناهية عن تفسير القرآن بالرأي وانعقدت السيرة على العمل بهذه الظواهر وأمضاها الشارع لعدم الردع عنها ، فنستصحب هذه الحجية الثابتة في ذلك الزمان ونقول أنَّ هذه الظهورات كانت حجة سابقاً وهي الآن كما كانت.

وهذه الحجية تارة يُفترض ثبوتها بدليل خاص وجوابه واضح وهو عدم وجود دليل خاص يدل على حجية الظهورات في تلك الفترة ، وأخرى يدعى أن الدليل على حجية هذه الظهورات هو السيرة العقلائية مع ضم الإمضاء لها فإذا شككنا في سقوط هذه الحجية أمكن إستصحابها ، ولكن هذا يتوقف أولاً على إثبات إنعقاد السيرة على العمل بهذه الظهورات ، وثانياً لابد من إحراز عدم الردع عنها بغير هذه الروايات ، ومع إحراز هذين الأمرين نحرز إمضاء الشارع لهذه السيرة ورضاه بالعمل بهذا الظهور القرآني فتثبت الحجية ، فإن تم ذلك فهذا الوجه لا بأس به ، وأما مع التشكيك فيهما إما بعدم العلم بانعقاد هذه السيرة على العمل بهذا الظهور لأنه غير واضح وإما للشك في الردع إذ لا يمكن إحراز عدم الردع فلعله صدر ولم يصل إلينا ، ومع في هذه الأمرين لا يتم هذا الدليل ولا يصح إستصحاب بقاء الحجية.

ولكن هذا الكلام ينسجم مع ما هو المعروف من التقيُّد بالسيرة العقلائية بمعناها الحرفي وهو العمل الخارجي من قبل العقلاء فيقال كيف نُحرز إنعقاد عمل العقلاء بالظهور القرآني ، وأما إذا فسرناها بالمعنى الأعم وهو ما يشمل المرتكزات العقلائية التي يكون العمل منطلقاً على أساسها فإذا فرضنا وجودها وضممنا إليها عدم الردع فهذا يكفي في إثبات الإمضاء وعليه لا نحتاج الى إحراز العمل الخارجي بهذا الظهور فإنَّ المرتكزات التي تجعل العقلاء يبنون على العمل بالظهور موجودة حتى بالنسبة الى الظاهر الذي تركوا العمل به لسبب من الأسباب ، فإذا اكتفينا بذلك فيمكن إحراز إنعقاد السيرة بمعناها الواسع على العمل بهذا الظهور.

هذا هو حال الطائفة الأولى ، ونذكر أنَّ التعارض المتقدم مبني على تمامية الأدلة التي إستدل بها الأخباريون على عدم حجية ظواهر الكتاب وهي الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي.

الطائفة الثانية: الأخبار الآمرة بعرض الشروط في المعاملات على كتاب الله عز وجل فما كان موافقاً للكتاب كان نافذاً وما كان مخالفاً له فلا قيمة له ، وهذه الأخبار دالة على حجية الدلالات القرآنية ومنها الظواهر.

ونسبة هذه الأخبار مع الأدلة الناهية عن تفسير القرآن بالرأي - على تقدير تماميتها - هي نفس النسبة السابقة أي العموم والخصوص من وجه فمع تعارضهما وتساقطهما تأتي الوجوه السابقة في تحديد المرجع بعد فرض التعارض والتساقط.

الطائفة الثالثة: الروايات الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب وهذه الطائفة تجعل الكتاب هو الميزان في قبول الخبر ورده وأنَّ ما خالفه زخرف وباطل ولم نقله ويرمى به عرض الجدار ، فلو لم تكن الدلالات القرآنية حجة فكيف يُعرف الموافق للكتاب من المخالف له!

وهذه الطائفة مهمة جداً في قبال قول الأخبارين بأنَّ ظواهر الكتاب ليست بحجة لأنَّ قولهم يعني أنَّ الأخبار هي المعيار في قبول الأخبار بمعنى عرض الخبر على الكتاب بعد تفسير الكتاب بالأخبار بينما هذه الطائفة تجعل القرآن الكريم هو المعيار في قبول الخبر أو عدم قبوله.

وقد يقال يحتمل إختصاص أخبار هذه الطائفة بالنصوص القطعية الصريحة ولا تشمل الظواهر فيكون الميزان في قبول الخبر هو عرضه على نص قرآني صريح فإن وافقه قُبل وإن خالفه طُرح ، وهذا لا ينفع في إثبات حجية الظهورات القرآنية وإنما يتم الإستدلال بهذه الطائفة على حجية الظهورات القرآنية عند تعميم العرض على ما يشمل الظهورات القرآنية فما وافقها يكون معياراً أيضاً ولا يختص العرض بالنص القرآني.

وجوابه أنَّ هذا الإحتمال غير وارد إطلاقاً باعتبار أنَّ المخالفة لا يُفرق فيها بين النص وبين الظاهر لأنَّ الوارد في الروايات هو عنوان (ما خالف) و (ما وافق) ولا يفرق في ذلك بين النص والظاهر فالخبر المخالف للنص مخالف للقرآن والخبر المخالف للظاهر مخالف للقرآن أيضاً ، فمقتضى إطلاق هذه الطائفة هو شمول الموافقة والمخالفة لكل من النص الصريح والظهور ، هذا أولاً.

وثانياً إنَّ هذه الأخبار سيقت لتمييز الأخبار الموضوعة التي نشرها الكذابون على الأئمة عليهم السلام عن الأخبار الصحيحة ولا يُعقل أن يجعل الكذاب حديثاً مخالفاً لصريح القرآن لوضوح بطلانه وعدم قبوله منه وإنما يستطيع أن يمرر الأكاذيب فيما لو جعل الخبر مخالفاً لظاهر القرآن فلو كان المعيار هو مخالفة الخبر لنص القرآن فلن تجد خبراً من هذا القبيل وهو إفتراض غير واقعي ، وكأن هذا الإفتراض يلزم منه الحمل على الفرد النادر أو المعدوم والحال أنَّ أخبار العرض على الكتاب كثيرة وفي حملها الفرد نادر أو المعدوم محذور.

وادعي تواتر الطائفة الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب فإن صحت هذه الدعوى فتُقدم على الأخبار التي إستدل بها الأخباريون - لو تمت - لأنَّ صدور أخبار العرض يكون قطعياً ومن الواضح أنَّ القطعي لا يعارضه الظني فنصل الى النتيجة المطلوبة ، وأما إذا لم تتم دعوى التواتر فحينئذٍ يُدعى التقديم على أساس الأخصية فيقال إنَّ هذه الأخبار أخص مطلقاً من الأخبار التي إستدل بها الأخباريون ووجه الأخصية هو أنَّ هذه الأخبار مختصة أساساً بالظواهر القرآنية لما تقدم من عدم وجود خبر مخالف لنص الكتاب بالبيان المتقدم فأخبار العرض ناظرة الى الخبر الذي يكون موافقاً أو مخالفاً لظاهر الكتاب بينما الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي - لو تمت - ليست مختصة بالظواهر وإنما تشملها مع المتشابه والمجمل فتكون أعم من هذه الأخبار وتتقدم هذه الأخبار عليها بالأخصية.