43/08/05
الموضوع: الظن/ حجية الظواهر / التفصيل في حجة الظهور/ التفصيل الثاني
الجواب الثاني: إنَّ الآية الشريفة ﴿هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۡهُ ءَایَـٰتࣱ مُّحۡكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتࣱۖ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمۡ زَیۡغࣱ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَاۤءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَاۤءَ تَأۡوِیلِهِۦۖ﴾[1] تُقسِّم الآيات الى محكمات ومتشابهات وتنهى عن إتباع المتشابه وهذا إتباع خاص وهو إتباع لغرض الفتنة فالمنهي عنه هو العمل بالمتشابه بحمله على أحد معانيه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وأما لو فرضنا العمل بالمتشابه لا لغرض الفتنة والمشاغبة وإحداث البلبلة بين الناس وإنما إتباعه بعد تحكيم المحكمات فلا يكون مشمولاً للنهي ، فحتى لو فرضنا وسلمنا دخول الظاهر في المتشابه فلا يكون من النحو المنهي عنه لأنَّ إتباعه ليس لغرض الفتنة والآية ساكته عنه.
الجواب الثالث: ولو سلَّمنا أنَّ المتشابه له فردان المجمل والظاهر ولكن يمكن تخصيصه بما دلَّ على حجية ظواهر الكتاب كما سيأتي فهذه الأدلة تصلح أن تكون مخصصة لهذا الإطلاق لو تم الإطلاق في الآية.
وقد يُشكل ويقال كيف يمكن الإلتزام بمفاد هذه الآية - وهو أنَّ في القرآن متشابهات - والحال أنَّ الأدلة دلت على أنَّ القرآن بيان للناس وأنَّه خطاب للجميع والغرض منه تفهيم الناس وهدايتهم إلا يلزم من ذلك التنافي إذ كيف يكون هداية وإرشاداً مع عدم معرفة المراد من بعض آياته ؟
وجوابه بأن يقال تارة إنَّ المقصود من كون القرآن كتاب هداية وإرشاد وأنه بيان وتبيان هو مجموع القرآن وليس المقصود منه كل آية آية من آياته وهذا لا ينافي أن تكون بعض آياته مجملة ومتشابهة ولا يعلم المراد منها.
إلا أنَّ هذا الجواب غير كاف لأنَّ واقع الإشكال لا يختص بالقرآن بل كل كلام يقصد به البيان والتفهيم لا يجوز أن يكون مجملاً بالأصل - وأن أمكن أن يطرأ عليه الإجمال بالعرض لخصوصيات في السامع - فالإشكال في إجمال الكلام بالأصل مع كونه صادراً للتفهيم والبيان والإرشاد والهداية ، ودعوى أن الكتاب ككل بيان وتبيان دون بعض آياته لا يدفع الإشكال لأنَّ بعض الآيات - وهي المتشابهات - بيان للناس أيضاً فكيف تكون مجملة ؟
وأخرى بدعوى وجود مصلحة في إجمال الخطاب وإيقاع التشابه وعدم توضيح المراد ، قالوا لعل هذه المصلحة هي ربط الناس بأهل البيت عليهم السلام وإرجاعهم اليهم وهذا موافق للروايات الدالة على أنَّ القرآن لا يعلمه إلا من خوطب به وهم الذين يعلمون عام الكتاب ومخصصه وناسخه ومنسوخه وسبب نزول آياته ..الخ ، فجُعلت آيات مجملة فيه حتى ترجع الأمة اليهم.
ولكنه أيضاً غير كافٍ لعدم إختصاص الإشكال بالقرآن الكريم وإنما الإشكال في أنَّ كل خطاب يُراد به التفهيم لا يجوز أن يكون مجملاً ، فإما أن نقول أنَّ المتكلم ليس في مقام التفهيم أو نقول أنَّ خطابه ليس مجملاً.
والجواب المقترح هو التمييز بين نوعين من المتشابه وهما المتشابه المفهومي والمتشابه المصداقي ، فبعض الألفاظ متشابهة مفهوماً ولا يُعرف ما هو المراد منها مفهوماً إما بجهالة أصل المعنى وإما بتردده بين معنين أو أكثر ، وقد يكون التشابه في المصداق مع وضوح المفهوم كمفهوم الكرسي فإنه واضح ولا شك فيه لكن مصداقه غير واضح ، فإذا إتضح ذلك نقول يمكن حمل ما دلَّ على وجود المتشابه في القرآن على أنَّ المراد به المتشابه في المصداق وأنَّ الذين في قلوبهم زيغ يُطبقونه على ما لا يصح أن يكون مصداقاً للمفهوم الوارد في الآية كتطبيق الكرسي في الآية على الكرسي المتعارف والعرش على العرش المتعارف وهكذا ، وبناءً عليه لا يكون ذلك منافياً لكون القرآن بياناً لكل شيء ولا لكونه لهداية جميع الناس إذ لا إجمال فيه من حيث المفهوم بحسب الفرض ومع العلم بما هو المراد به مفهوماً يكون القرآن بياناً وهادياً ولا يضر في ذلك إجمال المصداق ويندفع به الإشكال.
والذي يدعم هذا التفسير هو نفس النصوص الدالة على أنَّ القرآن بيان وتبيان لكل شيء وأنه لهداية الناس فهي لا تنسجم مع الحمل على التشابه المفهومي فيمكن جعلها قرينة على التشابه المصداقي وإلا يكون الإشكال ثابتاً.
وأيضاً الأمر بإتباع المحكم والنهي عن إتباع المتشابه يقتضي أن يكون المراد بالمتشابه هو المتشابه من حيث المصداق إذ يصعب تصور إتباع المتشابه من حيث المفهوم مع عدم وضوحه وهذا ما ينسجم مع الحمل على التشابه من حيث المصداق.
وكذلك التأويل المذكور في الآية فهو يعني حمل الشيء على خلاف معناه وهو في التشابه المفهومي يعني حمل اللفظ على غير معناه من دون دليل وأما في التشابه المصداقي فيعني تطبيق الآية على مصداق خارجي لا يصح أن يكون مصداقاً للآية فيقول مثلاً هذا هو الكرسي كما صنع مدعي النبوة ، وهذا ما يمكن جعله قرينة أخرى على أنَّ التشابه في الآية الكريمة هو التشابه في المصداق لا في المفهوم ، ولا يوجد محذور في هذا الحمل ويندفع به الإشكال ومع عدمه يكون الإشكال وارداً.
ويمكن تأييد ذلك أيضاً بالتفريق بين المتشابهات والمشتبهات فالأولى مأخوذة من الشبه وتعني المتماثلات وأنَّ بعضها يشبه بعضاً، والثانية مأخوذة من الإشتباه والالتباس وعدم الوضوح وفي الآية ﴿وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتࣱۖ﴾ أي الآيات التي يشبه بعضها بعضاً ، ولكن الإستدلال بُني على أنَّ المقصود بها هو المشتبهات فيُقال كيف يقول القران فيه آيات ملتبسة غير واضحة ولا يُعلم ما هو المراد منها مع كونه بياناً وهادياً ! وأما إذا قلنا أنها بمعنى متماثلات أي يشبه بعضها بعضاً من جهة ما ولنقل أنها متشابهة من حيث عدم وضوح المصداق بمعنى أنَّ هناك آيات واضحة مفهوماً ومصداقاً وهي المحكمات وهناك آيات متشابهة من حيث المصداق كالآيات التي ورد فيها الكرسي والعرش وجملة من المعاني المتربطة بالآخرة فهي متشابهة بمعنى لا يُعلم مصداقها والذين في قلوبهم زيغ يتبعون هذه الآيات المتشابهة ويفسرونها بما لا يصح أن يكون مصداقاً لها لغرض الفتنة ولغرض التأويل ، وعليه لا يرد هذا الإشكال أصلاً.
الدليل الرابع على أصل التفصيل: هو دعوى وجود علم إجمالي بأنَّ بعض الآيات أريد بها خلاف ظاهرها لعلمنا بطرو التقييدات والتخصيصات والتجوز مما يوجب عدم إرادة ظاهر الآية ولكن لا يمكن تمييز هذه الآيات فنهاك علم إجمالي يمنعنا من العمل بكل ظاهر ظاهر من ظواهر الكتاب لأنه يكون طرفاً من أطراف العلم الإجمالي فكل ظاهر يحتمل فيه التخصيص أو التقييد أو التجوز وإرادة خلاف الظاهر ولا يمكن إجراء أصالة الظهور في هذا الطرف لأنه معارض بجريانها في باقي الأطراف ولا يمكن إجراؤها في جميع الأطراف لمنافاته للعلم الإجمالي بوجود مقيدات ومخصصات فتسقط أصالة الظهور في الجميع ولا يكون هذا لظهور حجة.
وجوابه نقضاً وحلاً أما النقض فبالسنة إذ نعلم بوجود مقيدات ومخصصات وتجوزات فيها حتى إشتهر (ما من عام إلا وقد خُص) مع أنه لا يُمنع من العمل بظواهر السنة بشهادة نفس التفصيل بين ظواهر الكتاب وظواهر السنة فقد التزموا بحجية ظواهر السنة مع أنَّ الكلام نفسه يأتي فيها إذ نعلم إجمالاً بإرادة خلاف الظاهر من بعض السنة ولا يمكن تميزه فهذا يوجب عدم جريان أصالة الظهور في كل رواية ورواية وهذا ما لا يلتزمون به.
وأما الحل فبانحلال هذا العلم الإجمالي بالموارد التي عثرنا عليها وعلمنا بورود التخصيص والتقييد فيها ويُفترض أن هذا المقدار لا يقل عن المعلوم بالإجمال فينحل به العلم الإجمالي ، فمثلاً إذا كانت الظواهر مائة وعلمنا بإرادة خلاف الظاهر في عشرين منها فإذا فحصنا ووجدنا عشرين مورداً بين مقيد ومخصص فينحل العلم الإجمالي الى علم تفصيلي بوجود مقيدات ومخصصات وإرادة خلاف الظاهر في هذه الموارد مع شك بدوي في الباقي فتجري أصالة الظهور فيها بلا معارض.